الْحَدُّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ قَدْ جَرَحَهُمْ الْآخَرُونَ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَالْآخَرُونَ تَتَطَرَّقُ إلَيْهِمْ التُّهْمَةُ. وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ الْأَوَّلِينَ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْآخَرِينَ صَحِيحَةٌ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامًا مَعْنَاهُ: لَا يُحَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَدَّ الزِّنَا. وَهَلْ يُحَدُّ الْأَوَّلُونَ حَدَّ الْقَذْفِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى الْقَاذِفِ إذَا جَاءَ مَجِيءَ الشَّاهِدِ هَلْ يُحَدُّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
[فَصْلٌ كُلُّ زِنًا أَوْجَبَ الْحَدَّ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا أَرْبَعَةُ شُهُودٍ]
فَصْلٌ: وَكُلُّ زِنًا أَوْجَبَ الْحَدَّ، لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا أَرْبَعَةُ شُهُودٍ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ؛ لِتَنَاوُلِ النَّصِّ لَهُ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: ٤] . وَيَدْخُلُ فِيهِ اللِّوَاطُ، وَوَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا؛ لِأَنَّهُ زِنًا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، بِنَاءٍ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ.
وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوبَ الْحَدِّ بِهِ، وَيُخَصُّ هَذَا بِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ فَاحِشَةٌ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: ٨٠] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: ١٥] . فَإِذَا وُطِئَتْ فِي الدُّبُرِ، دَخَلَتْ فِي عُمُومِ الْآيَةِ.
وَوَطْءُ الْبَهِيمَةِ إنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ، لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِشُهُودٍ أَرْبَعَةٍ. وَإِنْ قُلْنَا لَا يُوجِبُ إلَّا التَّعْزِيرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَيَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَالثَّانِي: لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَرْبَعَةٍ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ فَاحِشَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ إيلَاجٌ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ، فَأَشْبَهَ الزِّنَا. وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا، كُلُّ وَطْءٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُوجِبُ التَّعْزِيرَ، كَوَطْءِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَأَمَتِهِ الْمُزَوَّجَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطْئًا كَالْمُبَاشَرَةِ دُونَ الْفَرْجِ وَنَحْوِهَا، ثَبَتَ بِشَاهِدَيْنِ، وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَطْءٍ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْحُقُوقِ.
[فَصْلٌ إقَامَةُ الْإِمَامِ الْحَدَّ بِعِلْمِهِ]
(٧٢٠٠) فَصْلٌ: وَلَا يُقِيمُ الْإِمَامُ الْحَدَّ بِعِلْمِهِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَهُ إقَامَتُهُ بِعِلْمِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَتْ لَهُ إقَامَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالِاعْتِرَافِ الَّذِي لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ، فَبِمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ أَوْلَى،
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: ١٥] . وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: ١٣] . وَقَالَ عُمَرُ: أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ. وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، وَلَوْ رَمَاهُ بِمَا عَلِمَهُ مِنْهُ لَكَانَ قَاذِفًا، يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ، فَلَمْ تَجُزْ إقَامَةُ الْحَدِّ بِهِ، كَقَوْلِ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute