إحْدَاهُمَا، لَا يَصِحُّ رَهْنُهُ. نَقَلَ الْجَمَاعَةُ عَنْهُ: أَرْخَصَ فِي رَهْنِ الْمُصْحَفِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الرَّهْنِ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيْعِهِ، وَبَيْعُهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَالثَّانِيَةُ، يَصِحُّ رَهْنُهُ. فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا رَهَنَ مُصْحَفًا لَا يَقْرَأُ فِيهِ إلَّا بِإِذْنِهِ. فَظَاهِرُ هَذَا صِحَّةُ رَهْنِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ فَصَحَّ رَهْنُهُ، كَغَيْرِهِ.
[فَصْلٌ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا يَرْهَنُهُ]
(٣٣٠٠) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنَّ يَسْتَعِيرَ شَيْئًا يَرْهَنُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا اسْتَعَارَ مِنْ الرَّجُلِ شَيْئًا يَرْهَنُهُ عَلَى دَنَانِيرَ مَعْلُومَةٍ، عِنْدَ رَجُلٍ سَمَّاهُ، إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ، فَفَعَلَ، أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ الْمُرْتَهَنَ، وَالْقَدْرَ الَّذِي يَرْهَنُهُ بِهِ، وَجِنْسَهُ، وَمُدَّةَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، فَاحْتِيجَ إلَى ذِكْرِهِ، كَأَصْلِ الرَّهْنِ، وَمَتَى شَرَطَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَخَالَفَ، وَرَهَنَهُ بِغَيْرِهِ، لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي هَذَا الرَّهْنِ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي أَصْلِ الرَّهْنِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ بِقَدْرِ مِنْ الْمَالِ، فَنَقَصَ عَنْهُ، مِثْلُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ بِمِائَةِ، فَيَرْهَنُهُ بِخَمْسِينَ، صَحَّ؛ لِأَنَّ مَنْ أَذِنَ فِي مِائَةٍ، فَقَدْ أَذِنَ فِي خَمْسِينَ.
وَإِنْ رَهَنَهُ بِأَكْثَرَ، مِثْلُ أَنَّ رَهَنَهُ بِمِائَةِ وَخَمْسِينَ، احْتَمَلَ أَنْ يَبْطُلَ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ، فَبَطَلَ، كَمَا لَوْ قَالَ: ارْهَنْهُ بِدَنَانِيرَ. فَرَهَنَهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِحَالٍّ فَرَهَنَهُ بِمُؤَجَّلٍ أَوْ بِمُؤَجَّلٍ. فَرَهَنَهُ بِحَالٍّ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ. كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي، أَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْمِائَةِ، وَيَبْطُلُ فِي الزَّائِدِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ، فَجَازَ فِيمَا دُونَ غَيْرِهِ، كَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَيُفَارِقُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأُصُولِ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَأْذُونًا فِيهِ بِحَالٍّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ لَا يُوجَدُ فِي الْآخَرِ، فَإِنَّ الرَّاهِنَ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى فِكَاكِهِ فِي الْحَالِّ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْأَجَلِ وَبِالْعَكْسِ. وَقَدْ يَقْدِرُ عَلَى فِكَاكِهِ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَيَفُوتُ الْغَرَضُ بِالْمُخَالَفَةِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا إذَا صَحَّ فِي الْمِائَةِ الْمَأْذُونِ فِيهَا لَمْ يَخْتَلِفْ الْغَرَضُ، فَإِنْ أَطْلَقَ الرَّهْنَ فِي الْإِذْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ، وَلَهُ رَهْنُهُ بِمَا شَاءَ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.
وَالْآخَرُ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَ قَدْرَ الَّذِي يَرْهَنُهُ بِهِ، وَصِفَتَهُ، وَحُلُولَهُ، وَتَأْجِيلَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الضَّمَانِ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَالْعَارِيَّةُ مَا أَفَادَتْ الْمَنْفَعَةَ، إنَّمَا حَصَّلَتْ لَهُ نَفْعًا يَكُونُ الرَّهْنُ وَثِيقَةً عَنْهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الضَّمَانِ فِي ذِمَّتِهِ، وَضَمَانُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ. وَلَنَا، أَنَّهَا عَارِيَّةٌ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لِصِحَّتِهَا ذِكْرُ ذَلِكَ، كَالْعَارِيَّةِ لِغَيْرِ الرَّهْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ عَارِيَّةٌ أَنَّهُ قَبَضَ مِلْكَ غَيْرِهِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، مُنْفَرِدًا بِهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، فَكَانَ عَارِيَّةً، كَقَبْضِهِ لِلْخِدْمَةِ. وَقَوْلُهُمْ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute