وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ الْوَدِيعَةَ إلَى مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ صَاحِبُهَا، فَضَمِنَهَا. كَمَا لَوْ سَلَّمَهَا إلَى أَجْنَبِيٍّ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَفِظَهَا بِمَا يَحْفَظُ بِهِ مَالَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَفِظَهَا بِنَفْسِهِ، وَكَمَا لَوْ دَفَعَ الْمَاشِيَةَ إلَى الرَّاعِي، أَوْ دَفَعَ الْبَهِيمَةَ إلَى غُلَامِهِ لِيَسْقِيَهَا، وَيُفَارِقُ الْأَجْنَبِيَّ، فَإِنَّ دَفْعَهَا إلَيْهِ لَا يُعَدُّ حِفْظًا مِنْهُ. الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ، إذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ، مِثْلُ إنْ أَرَادَ سَفَرًا، أَوْ خَافَ عَلَيْهَا عِنْدَ نَفْسِهِ مِنْ حَرْقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهَذَا إنْ قَدَرَ عَلَى رَدِّهَا عَلَى صَاحِبِهَا أَوْ وَكِيلِهِ فِي قَبْضِهَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ دَفْعُهَا إلَى غَيْرِهِ.
فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهَا إلَى غَيْرِ مَالِكِهَا بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَضَمِنَهَا، كَمَا لَوْ أَوْدَعَهَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى. وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَا وَكِيلِهِ، فَلَهُ دَفْعُهَا إلَى الْحَاكِمِ، سَوَاءٌ كَانَ بِهِ ضَرُورَةٌ إلَى السَّفَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِإِمْسَاكِهَا، فَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِدَامَتُهُ، وَالْحَاكِمُ يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهَا عِنْدَ غَيْبَتِهِ. وَإِنْ أَوْدَعَهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَاكِمِ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَاكِمِ لَا وِلَايَةَ لَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجُوزَ لَهُ إيدَاعُهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَحْفَظَ لَهَا وَأَحَبَّ إلَى صَاحِبِهَا. وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَاكِمِ، فَأَوْدَعَهَا ثِقَةً، لَمْ يَضْمَنْهَا لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَضْمَنُهَا.
ثُمَّ تَأَوَّلَ كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهُ أَوْدَعَهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، أَوْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَاكِمِ. وَإِنْ دَفَنَهَا فِي مَوْضِعٍ وَأَعْلَمَ بِهَا ثِقَةً يَدُهُ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَكَانَتْ مِمَّا لَا يَضُرُّهَا الدَّفْنُ، فَهُوَ كَإِيدَاعِهَا عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْ بِهَا أَحَدًا ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَمُوتَ فِي سَفَرِهِ، فَلَا تَصِلُ إلَى صَاحِبِهَا، وَرُبَّمَا نَسِيَ مَكَانَهَا، أَوْ أَصَابَهُ آفَةٌ مِنْ هَدْمٍ أَوْ حَرْقٍ أَوْ غَرَقٍ، فَتُضِيعُ. وَإِنْ أَعْلَمَ بِهَا غَيْرَ ثِقَةٍ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَخَذَهَا. وَإِنْ أَعْلَمَ بِهَا ثِقَةً لَا يَدَ لَهُ عَلَى الْمَكَانِ، فَقَدْ فَرَّطَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُودِعْهَا إيَّاهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِفَاظِ بِهَا.
[فَصْلٌ أَرَادَ السَّفَرَ الْوَدِيعَةِ وَقَدْ نَهَاهُ الْمَالِكُ عَنْ ذَلِكَ]
(٥٠٤٦) فَصْلٌ: وَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بِهَا وَقَدْ نَهَاهُ الْمَالِكُ عَنْ ذَلِكَ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِصَاحِبِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَهَاهُ، لَكِنَّ الطَّرِيقَ مَخُوفٌ، أَوْ الْبَلَدَ الَّذِي يُسَافِرُ إلَيْهِ مَخُوفٌ ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلَهُ السَّفَرُ بِهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، سَوَاءٌ كَانَ بِهِ ضَرُورَةٌ إلَى السَّفَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ سَافَرَ بِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى صَاحِبِهَا، أَوْ وَكِيلِهِ، أَوْ الْحَاكِمِ أَوْ أَمِينٍ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ يُسَافِرُ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ السَّفَرُ مَخُوفًا
وَلَنَا، أَنَّهُ نَقَلَهَا إلَى مَوْضِعٍ مَأْمُونٍ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا لَوْ نَقَلَهَا فِي الْبَلَدِ، وَلِأَنَّهُ سَافَرَ بِهَا سَفَرًا غَيْرَ مَخُوفٍ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute