للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهَلْ تُؤَدَّى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، عَلَى حَسْبِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْعَاقِلَةِ. وَالثَّانِي، يُؤَدِّي دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدَّى دِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ عُمَرُ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ مُتْلَفٍ لَا تُؤَدِّيه الْعَاقِلَةُ، فَيَجِبُ كُلُّهُ فِي الْحَالِ، كَسَائِرِ بَدَلِ الْمُتْلَفَاتِ، وَإِنَّمَا أَجَّلَ عَلَى الْعَاقِلَةِ تَخْفِيفًا عَنْهُمْ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلِهَذَا يُؤَدَّى الْجَمِيعُ (٦٨٣٠) الْفَصْلُ الثَّانِي: إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْأَخْذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَلَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ لَزِمَتْ الْعَاقِلَةَ ابْتِدَاءً، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِهَا غَيْرُهُمْ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَحَمُّلُهُمْ وَلَا رِضَاهُمْ بِهَا، وَلَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ عَدِمَ الْقَاتِلُ، فَإِنَّ الدِّيَةَ لَا تَجِبُ عَلَى أَحَدٍ، كَذَا هَاهُنَا.

فَعَلَى هَذَا، إنَّ وُجِدَ بَعْضُ الْعَاقِلَةِ، حُمِّلُوا بِقِسْطِهِمْ، وَسَقَطَ الْبَاقِي، فَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ إذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهَا عَنْهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: ٩٢] . وَلِأَنَّ قَضِيَّةَ الدَّلِيلِ وُجُوبُهَا عَلَى الْجَانِي جَبْرًا لِلْمَحَلِّ الَّذِي فَوَّتَهُ، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْ الْقَاتِلِ لِقِيَامِ الْعَاقِلَةِ مَقَامَهُ فِي جَبْرِ الْمَحَلِّ، فَإِذَا لَمْ يُؤْخَذْ ذَلِكَ، بَقِيَ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يُطَلَّ دَمُ الْمَقْتُولِ، وَبَيْنَ إيجَابِ دِيَتِهِ عَلَى الْمُتْلِفِ، لَا يَحُوزُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقِيَاسِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَلِأَنَّ إهْدَارَ الدَّمِ الْمَضْمُونِ لَا نَظِيرَ لَهُ، وَإِيجَابُ الدِّيَةِ عَلَى قَاتِلِ الْخَطَأِ لَهُ نَظَائِرُ، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَالذِّمِّيَّ الَّذِي لَا عَاقِلَةَ لَهُ تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ، وَمَنْ رَمَى سَهْمًا ثُمَّ أَسْلَمَ، أَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِمَوَالِي أُمِّهِ فَانْجَرَّ إلَى مَوَالِي أَبِيهِ، ثُمَّ أَصَابَ بِسَهْمٍ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ، كَانَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِتَعَذُّرِ حَمْلِ عَاقِلَتِهِ عَقْلَهُ، كَذَلِكَ هَاهُنَا، فَنُحَرِّرُ مِنْهُ قِيَاسًا فَنَقُولُ: قَتِيلٌ مَعْصُومٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، تَعَذَّرَ حَمْلُ عَاقِلَتِهِ عَقْلَهُ، فَوَجَبَ عَلَى قَاتِلِهِ، كَهَذِهِ الصُّورَةِ.

وَهَذَا أَوْلَى مِنْ إهْدَارِ دِمَاءِ الْأَحْرَارِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ عَاقِلَةٌ تَحْمِلُ الدِّيَةَ كُلَّهَا، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَخْذِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَتَضِيعُ الدِّمَاءُ، وَيَفُوتُ حُكْمُ إيجَابِ الدِّيَةِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً. مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ، ثُمَّ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ عَنْهُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَهَا عَلَيْهِمْ ابْتِدَاءً، لَكِنَّ مَعَ وُجُودِهِمْ، أَمَّا مَعَ عَدَمِهِمْ، فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ. ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ مَنْقُوضٌ بِمَا أَبْدَيْنَاهُ مِنْ الصُّوَرِ. فَعَلَى هَذَا، تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ إنْ تَعَذَّرَ حَمْلُ جَمِيعِهَا، أَوْ بَاقِيهَا إنْ حَمَلَتْ الْعَاقِلَةُ بَعْضَهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[مَسْأَلَةٌ دِيَةُ الْحُرِّ الْكِتَابِيِّ]

(٦٨٣١) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَدِيَةُ الْحُرِّ الْكِتَابِيِّ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَنِسَاؤُهُمْ، عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَاتِهِمْ)

<<  <  ج: ص:  >  >>