للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْبَيْعُ وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُهُ.

وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ قِيمَةِ السِّلْعَةِ مَعَ سَلَامَتِهَا لَا يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ، كَبَيْعِ غَيْرِ الْمُسْتَرْسِلِ، وَكَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ. وَلَنَا، أَنَّهُ غَبْنٌ حَصَلَ لِجَهْلِهِ بِالْمَبِيعِ، فَأَثْبَتِ الْخِيَارَ، كَالْغَبْنِ فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَرْسِلِ، فَإِنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِالْغَبْنِ، فَهُوَ كَالْعَالِمِ بِالْعَيْبِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَعْجَلَ، فَجَهِلَ مَا لَوْ تَثَبَّتَ لَعَلِمَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ؛ لِأَنَّهُ انْبَنَى عَلَى تَقْصِيرِهِ وَتَفْرِيطِهِ. وَالْمُسْتَرْسِلُ هُوَ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ، وَلَا يُحْسِنُ الْمُبَايَعَةَ.

قَالَ أَحْمَدُ: الْمُسْتَرْسِلُ، الَّذِي لَا يُحْسِنُ أَنْ يُمَاكِسَ. وَفِي لَفْظٍ، الَّذِي لَا يُمَاكِسُ. فَكَأَنَّهُ اسْتَرْسَلَ إلَى الْبَائِعِ، فَأَخَذَ مَا أَعْطَاهُ مِنْ غَيْرِ مُمَاكَسَةٍ، وَلَا مَعْرِفَةٍ بِغَبْنِهِ. فَأَمَّا الْعَالِمُ بِذَلِكَ، وَاَلَّذِي لَوْ تَوَقَّفَ لَعَرَفَ، إذَا اسْتَعْجَلَ فِي الْحَالِ فَغُبِنَ، فَلَا خِيَارَ لَهُمَا. وَلَا تَحْدِيدَ لِلْغَبْنِ فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ، وَحَدَّهُ أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّنْبِيهِ "، وَابْنُ أَبِي مُوسَى فِي " الْإِرْشَادِ " بِالثُّلُثِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ كَثِيرٌ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . وَقِيلَ: بِالسُّدُسِ، وَقِيلَ: مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ فِي الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدِهِ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ.

[فَصْلٌ إذَا وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ]

(٢٧٧٨) فَصْلٌ: وَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَقَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ، وَرِطْلِ زَيْتٍ مِنْ دَنٍّ، فَمُقْتَضَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، إذَا تَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا رَدُّهُ، إلَّا بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هَاهُنَا يَلْزَمُ بِالتَّفَرُّقِ، سَوَاءٌ تَقَابَضَا أَوْ لَمْ يَتَقَابَضَا. وَقَالَ الْقَاضِي: الْبَيْعُ لَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ.

وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، مَنْ اشْتَرَى قَفِيزَيْنِ مِنْ صُبْرَتَيْنِ، فَتَلِفَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، بَطَلَ الْعَقْدُ فِي التَّالِفِ دُونَ الْبَاقِي، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اللُّزُومِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، سَوَاءٌ تَلِفَتْ إحْدَاهُمَا أَوْ لَمْ تَتْلَفْ، وَوَجْهُ الْجَوَازِ، أَنَّهُ مَبِيعٌ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ، وَلَا التَّصَرُّفَ فِيهِ، فَكَانَ الْبَيْعُ فِيهِ جَائِزًا كَمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَلِفَ لَكَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» .

وَمَا ذَكَرْنَاهُ لِلْقَوْلِ الْآخَرِ يَنْتَقِضُ بِبَيْعِ مَا تَقَدَّمَتْ رُؤْيَتُهُ، وَبَيْعِ الْمَوْصُوفِ، وَالسَّلَمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَبِيعِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.

[مَسْأَلَةٌ الْخِيَارُ يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ يَعْنِي ثَلَاثَ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا]

(٢٧٧٩) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَالْخِيَارُ يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ) يَعْنِي ثَلَاثَ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا. وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّيَالِي؛ لِأَنَّ التَّارِيخَ يَغْلِبُ فِيهِ التَّأْنِيثُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: ١٤٢] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: ٢٣٤] .

وَفِي حَدِيثِ حِبَّانَ: «وَلَك الْخِيَارُ ثَلَاثًا» . وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ الْمُدَّةِ الْمَعْلُومَةِ، قَلَّتْ مُدَّتُهُ أَوْ كَثُرَتْ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ،

<<  <  ج: ص:  >  >>