فَلَمْ يُمَكِّنْهُ الْمُسْتَأْجِرُ، لَمْ تَسْتَقِرَّ الْأُجْرَةُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ بَدَلُهَا بِالْبَذْلِ، كَالصَّدَاقِ لَا يَسْتَقِرُّ بِبَذْلِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا. وَيُفَارِقُ حَبْسَ الدَّابَّةِ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَلِفَتْ تَحْتَ يَدِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.
[مَسْأَلَة اسْتِئْجَارُ الرَّاعِي]
(٤٣٠٣) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاعِي إذَا لَمْ يَتَعَدَّ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي صِحَّةِ اسْتِئْجَارِ الرَّاعِي، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ شُعَيْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: ٢٧] . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إنَّمَا آجَرَ نَفْسَهُ لِرِعَايَةِ الْغَنَمِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاعِي فِيمَا تَلِفَ مِنْ الْمَاشِيَةِ، مَا لَمْ يَتَعَدَّ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا إلَّا عَنْ الشَّعْبِيِّ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ ضَمَّنَ الرَّاعِيَ
وَلَنَا أَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى حِفْظِهَا، فَلَمْ يَضْمَنْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ، كَالْمُودَعِ، وَلِأَنَّهَا عَيْنٌ قَبَضَهَا بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ، كَالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ. فَأَمَّا مَا تَلِفَ بِتَعَدِّيهِ، فَيَضْمَنُهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، مِثْلُ أَنْ يَنَامَ عَنْ السَّائِمَةِ، أَوْ يَغْفُلَ عَنْهَا، أَوْ يَتْرُكَهَا تَتَبَاعَدُ مِنْهُ، أَوْ تَغِيبُ عَنْ نَظَرِهِ وَحِفْظِهِ، أَوْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا يُسْرِفُ فِيهِ، أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرْبِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ، أَوْ سَلَكَ بِهَا مَوْضِعًا تَتَعَرَّضُ فِيهِ لِلتَّلَفِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا مِمَّا يُعَدُّ تَفْرِيطًا وَتَعَدِّيًا، فَتَتْلَفُ بِهِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ بِعُدْوَانِهِ، فَضَمِنَهَا كَالْمُودِعِ إذَا تَعَدَّى، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّعَدِّي وَعَدَمِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاعِي لِأَنَّهُ أَمِينٌ
وَإِنْ فَعَلَ فِعْلًا اخْتَلَفَا فِي كَوْنِهِ تَعَدِّيًا، رُجِعَ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ. وَلَوْ جَاءَ بِجِلْدِ شَاةٍ، وَقَالَ: مَاتَتْ. قُبِلَ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَضْمَنْ. وَعَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَضْمَنُ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْأُمَنَاءَ تُقْبَلُ أَقْوَالُهُمْ، كَالْمُودَعِ، وَلِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ فِي الْغَالِبِ، فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى مَوْتَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْتِيَ بِجِلْدِهَا.
[فَصْل الْعَقْدُ فِي الرَّعْيِ]
(٤٣٠٤) فَصْلٌ: وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي الرَّعْيِ إلَّا عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَنْحَصِرُ. وَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى رَعْيِ مَاشِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَعَلَى جِنْسٍ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ عَقَدَ عَلَى مَاشِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِأَعْيَانِهَا، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَجُوزُ إبْدَالُهُ، وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِتَلَفِهَا. وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهَا، بَطَلَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فِيهِ، وَلَهُ أَجْرُ مَا بَقِيَ مِنْهَا بِالْحِصَّةِ. وَإِنْ وَلَدَتْ سِخَالًا، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ رَعْيُهَا؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا الْعَقْدُ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِأَعْيَانِهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ بِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ظَهْرًا لِيَرْكَبهُ، جَازَ أَنْ يَرْكَبَ غَيْرَهُ مَكَانَهُ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنهَا، جَازَ أَنْ يُسْكِنَهَا مِثْلَهُ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً، جَازَ أَنْ يَزْرَعَهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute