وَرَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَطْعِمْ عَنِّي صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ. وَلِأَنَّهُ إطْعَامٌ لِلْمَسَاكِينِ، فَكَانَ صَاعًا مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَلَنَا مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، ثنا إسْمَاعِيلُ، ثنا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ قَالَ: «جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ بِنِصْفِ وَسْقٍ شَعِيرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُظَاهِرِ: أَطْعِمْ هَذَا؛ فَإِنَّ مُدَّيْ شَعِيرٍ مَكَانَ مُدِّ بُرٍّ» . وَهَذَا نَصٌّ. وَيَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مُدُّ بُرٍّ، أَنَّهُ قَوْلُ زَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَعَلَى أَنَّهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ التَّمْرِ أَوْ الشَّعِيرِ، مَا رَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِخُوَيْلَةَ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ اذْهَبِي إلَى فُلَانٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَإِنَّ عِنْدَهُ شَطْرَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، أَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، فَلْتَأْخُذِيهِ، فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا» .
وَفِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ. قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَالَ: قَدْ أَحْسَنْتِ، اذْهَبِي فَأَطْعِمِي بِهَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَارْجِعِي إلَى ابْنِ عَمِّكِ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ قَالَ: الْعَرَقُ زِنْبِيلٌ يَأْخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا. فَعَرَقَانِ يَكُونَانِ ثَلَاثِينَ صَاعًا، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى صِيَامٍ وَإِطْعَامٍ، فَكَانَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، كَفِدْيَةِ الْأَذَى. فَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد أَنَّ " الْعَرَقَ سِتُّونَ صَاعًا ". فَقَدْ ضَعَّفَهَا وَقَالَ: غَيْرُهَا أَصَحُّ مِنْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الضَّعْفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ: (إنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ) . فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: إنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَالَ: (فَأَطْعِمِي بِهَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) . فَلَوْ كَانَ الْعَرَقُ سِتِّينَ صَاعًا، لَكَانَتْ الْكَفَّارَةُ مِائَةً وَعِشْرِينَ صَاعًا، وَلَا قَائِلَ بِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُجَامِعِ الَّذِي أَعْطَاهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَقَالَ: (تَصَدَّقْ بِهِ) . فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِحَاجَتِهِ إلَيْهِ أَمَرَهُ بِأَكْلِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: (قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ صَاعًا) . وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْبَعْضِ الَّذِي لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ. وَحَدِيثُ أَوْسٍ بْن أَخِي عُبَادَةَ مُرْسَلٌ، يَرْوِيهِ عَنْهُ عَطَاءٌ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ عَرَقًا، وَأَعَانَتْهُ امْرَأَتُهُ بِآخَرَ، فَصَارَا جَمِيعًا ثَلَاثِينَ صَاعًا.
وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ نَجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَخْبَارِنَا بِحَمْلِهَا عَلَى الْجَوَازِ، وَأَخْبَارِنَا عَلَى الْإِجْزَاءِ، وَقَدْ عَضَّدَ هَذَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَاوِي بَعْضِهَا، وَمَذْهَبُهُ أَنَّ الْمُدَّ مِنْ الْبُرِّ يُجْزِئُ، وَكَذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَسَائِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، مَعَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي نَقَلَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute