وَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْحُكْمِ، أَنْ يَبْعَثَ إلَى الْحَاكِمِ الْمَعْزُولِ فَيَأْخُذَ مِنْهُ دِيوَانَ الْحُكْمِ؛ وَهُوَ مَا فِيهِ وَثَائِقُ النَّاسِ مِنْ الْمَحَاضِرِ، وَهِيَ نُسَخُ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَالسِّجِلَّاتُ نُسَخُ مَا حَكَمَ بِهِ، وَمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ حُجَجِ النَّاسِ وَوَثَائِقِهِمْ مُودَعَةً فِي دِيوَانِ الْحُكْمِ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ، فَإِذَا انْتَقَلْت الْوِلَايَةُ إلَى غَيْرِهِ، كَانَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ، فَتَكُونُ مُودَعَةً عِنْدَهُ فِي دِيوَانِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَعَدَ بِالْجُلُوسِ فِيهِ إلَى مَجْلِسِهِ، عَلَى أَكْمَلِ حَالَةٍ وَأَعْدَلِهَا، خَلِيًّا مِنْ الْغَضَبِ، وَالْجُوعِ الشَّدِيدِ وَالْعَطَشِ، وَالْفَرَحِ الشَّدِيدِ وَالْحُزْنِ الْكَثِيرِ، وَالْهَمِّ الْعَظِيمِ، وَالْوَجَعِ الْمُؤْلِمِ، وَمُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، وَالنُّعَاسِ الَّذِي يَغْمُرُ الْقَلْبَ؛ لِيَكُونَ أَجْمَعَ لِقَلْبِهِ، وَأَحْضَرَ لِذِهْنِهِ، وَأَبْلَغَ فِي تَيَقُّظِهِ لِلصَّوَابِ، وَفِطْنَتِهِ لِمَوْضِعِ الرَّأْيِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» . فَنَصَّ عَلَى الْغَضَبِ، وَنَبَّهَ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ سَائِرِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَيُسَلِّمُ عَلَى مَنْ يَمُرُّ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي طَرِيقِهِ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ حَتَّى يَأْتِيَ مَجْلِسَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مَوْضِعٍ بَارِزٍ لِلنَّاسِ فَسِيحٍ، كَالرَّحْبَةِ وَالْفَضَاءِ الْوَاسِعِ أَوْ الْجَامِعِ. وَلَا يُكْرَهُ الْقَضَاءُ فِي الْمَسَاجِدِ، فَعَلَ ذَلِكَ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ خَلْدَةَ، قَاضٍ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْضُونَ فِي الْمَسْجِدِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ خَصْمَانِ عِنْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنْ لَا تَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ تَأْتِيك الْحَائِضُ وَالْجَنْبُ. وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ يَأْتِيهِ الذِّمِّيُّ وَالْحَائِضُ وَالْجُنُبُ، وَتَكْثُرُ غَاشِيَتُهُ، وَيَجْرِي بَيْنَهُمْ اللَّغَطُ وَالتَّكَاذُبُ وَالتَّجَاحُدُ، وَرُبَّمَا أَدَّى إلَى السَّبِّ وَمَا لَمْ تُبْنَ لَهُ الْمَسَاجِدُ. وَلَنَا، إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ بِمَا قَدْ رَوَيْنَاهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: رَأَيْت عُمَرَ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إلَى الْقِبْلَةِ، يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ. وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَإِنْصَافٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَمْ يُكْرَهْ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا نَعْلَمُ صِحَّةَ مَا رَوَوْهُ عَنْ عُمَرَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ.
وَأَمَّا الْحَائِضُ، فَإِنْ عَرَضَتْ لَهَا حَاجَةٌ إلَى الْقَضَاءِ، وَكَّلَتْ، أَوْ أَتَتْهُ فِي مَنْزِلِهِ. وَالْجُنُبُ يَغْتَسِلُ وَيَدْخُلُ، وَالذِّمِّيُّ يَجُوزُ دُخُولُهُ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُ فِي مَسْجِدِهِ، مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ لِلْحُكُومَةِ وَالْفُتْيَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهِمْ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُطَالِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْحُقُوقِ فِي الْمَسْجِدِ، وَرُبَّمَا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ.
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «تَقَاضَيْت ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا فِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَشَارَ إلَيَّ، أَنْ ضَعْ مِنْ دَيْنِك الشَّطْرَ. فَقُلْت: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: فَقُمْ فَاقْضِهِ» .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute