للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْكُوفَةِ، فَإِذَا هُوَ بِأَبْنِيَةٍ مَضْرُوبَةٍ، فَسَأَلَ عَنْهَا. فَقِيلَ: قَوْمٌ مُعْتَكِفُونَ. فَانْطَلَقَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَلَا تَعْجَبُ مِنْ قَوْمٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُعْتَكِفُونَ بَيْنَ دَارِك وَدَارِ الْأَشْعَرِيِّ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَعَلَّهمْ أَصَابُوا وَأَخْطَأْت، وَحَفِظُوا وَنَسِيت. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَقَدْ عَلِمْت مَا الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: ١٨٧] . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إذَا لَمْ يَكُنْ اعْتِكَافُهُ يَتَخَلَّلُهُ جُمُعَةٌ.

وَلَنَا، قَوْلُ عَائِشَةَ: مِنْ السُّنَّةِ لِلْمُعْتَكِفِ، أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ. وَهُوَ يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَمَا كَانَ. وَرَوَى سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنْ الضَّحَّاكِ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ، فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ يَصْلُحُ» . وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: ١٨٧] يَقْتَضِي إبَاحَةَ الِاعْتِكَافِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ، إلَّا أَنَّهُ يُقَيَّدُ بِمَا تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ بِالْأَخْبَارِ، وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ.

وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي اشْتِرَاطِهِ مَوْضِعًا تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ، لَا يَصِحُّ؛ لِلْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَتَكَرَّرُ، فَلَا يَضُرُّ وُجُوبُ الْخُرُوجِ إلَيْهَا، كَمَا لَوْ اعْتَكَفَتْ الْمَرْأَةُ مُدَّةً يَتَخَلَّلُهَا أَيَّامُ حَيْضِهَا. وَلَوْ كَانَ الْجَامِعُ تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ وَحْدَهَا، وَلَا يُصَلَّى فِيهِ غَيْرُهَا، لَمْ يَجُزْ الِاعْتِكَافُ فِيهِ. وَيَصِحُّ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَمَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا، فَيَلْتَزِمُ الْخُرُوجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إلَيْهَا، فَيَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ، وَعِنْدَهُمْ لَيْسَتْ وَاجِبَةً. (٢١٥٢)

فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ اعْتِكَافُهُ مُدَّةً غَيْرَ وَقْتِ الصَّلَاةِ؛ كَلَيْلَةٍ أَوْ بَعْضِ يَوْمٍ، جَازَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ؛ لِعَدَمِ الْمَانِعِ. وَإِنْ كَانَتْ تُقَامُ فِيهِ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ، جَازَ الِاعْتِكَافُ فِيهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ دُونَ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَكِفُ مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ الْجَمَاعَةُ، كَالْمَرِيضِ، وَالْمَعْذُورِ، وَمَنْ هُوَ فِي قَرْيَةٍ لَا يُصَلِّي فِيهَا سِوَاهُ، جَازَ اعْتِكَافُهُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْجَمَاعَةُ، فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ. وَإِنْ اعْتَكَفَ اثْنَانِ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ جَمَاعَةٌ، فَأَقَامَا الْجَمَاعَةَ فِيهِ، صَحَّ اعْتِكَافُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَقَامَا الْجَمَاعَةَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَقَامَهَا فِيهِ غَيْرُهُمَا. (٢١٥٣)

فَصْلٌ: وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ. وَلَا يُشْتَرَطُ إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَلَيْسَ لَهَا الِاعْتِكَافُ فِي بَيْتِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: لَهَا الِاعْتِكَافُ فِي مَسْجِدِ

<<  <  ج: ص:  >  >>