وَجْهُ الْأَوَّلِ، مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اعْتَكَفَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ. وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ، فَلَا يُعَرِّجُ يَسْأَلُ عَنْهُ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ مِنْ أَجْلِهِ، كَالْمَشْيِ مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ لِيَقْضِيَهَا لَهُ. وَإِنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ، وَأَمْكَنَهُ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ، لَمْ يَجُزْ الْخُرُوجُ إلَيْهَا. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، فَلَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهَا. وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ دَفْنُ الْمَيِّتِ، أَوْ تَغْسِيلُهُ، جَازَ أَنْ يَخْرُجَ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الِاعْتِكَافِ، كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الِاعْتِكَافُ تَطَوُّعًا، وَأَحَبَّ الْخُرُوجَ مِنْهُ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ، أَوْ شُهُودِ جِنَازَةٍ، جَازَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَطَوُّعٌ، فَلَا يَتَحَتَّمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ الْمُقَامُ عَلَى اعْتِكَافِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يُعَرِّجُ عَلَى الْمَرِيضِ وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ.
فَأَمَّا إنْ خَرَجَ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَسَأَلَ عَنْ الْمَرِيضِ فِي طَرِيقِهِ، وَلَمْ يُعَرِّجْ، جَازَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ. (٢١٦٢) الْفَصْلُ الثَّانِي، إذَا اشْتَرَطَ فِعْلَ ذَلِكَ فِي اعْتِكَافِهِ، فَلَهُ فِعْلُهُ، وَاجِبًا كَانَ الِاعْتِكَافُ أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ قُرْبَةً، كَزِيَارَةِ أَهْلِهِ، أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ أَوْ عَالِمٍ، أَوْ شُهُودِ جِنَازَةٍ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مُبَاحًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، كَالْعَشَاءِ فِي مَنْزِلِهِ، وَالْمَبِيتِ فِيهِ، فَلَهُ فِعْلُهُ.
قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْمُعْتَكِفِ يَشْتَرِطُ أَنْ يَأْكُلَ فِي أَهْلِهِ؟ قَالَ: إذَا اشْتَرَطَ فَنَعَمْ. قِيلَ لَهُ: وَتُجِيزُ الشَّرْطَ فِي الِاعْتِكَافِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت لَهُ: فَيَبِيتُ فِي أَهْلِهِ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ تَطَوُّعًا، جَازَ. وَمِمَّنْ أَجَازَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَشَاءَ فِي أَهْلِهِ الْحَسَنُ، وَالْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ. وَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو مِجْلَزٍ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. قَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ فِي الِاعْتِكَافِ شَرْطٌ.
وَلَنَا، أَنَّهُ يَجِبُ بِعَقْدِهِ، فَكَانَ الشَّرْطُ إلَيْهِ فِيهِ كَالْوُقُوفِ، وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَخْتَصُّ بِقَدْرٍ، فَإِذَا شَرَطَ الْخُرُوجَ فَكَأَنَّهُ نَذَرَ الْقَدْرَ الَّذِي أَقَامَهُ. وَإِنْ قَالَ: مَتَى مَرِضْت أَوْ عَرَضَ لِي عَارِضٌ، خَرَجْت. جَازَ شَرْطُهُ. (٢١٦٣)
فَصْلٌ: وَإِنْ شَرَطَ الْوَطْءَ فِي اعْتِكَافِهِ، أَوْ الْفُرْجَةَ، أَوْ النُّزْهَةَ، أَوْ الْبَيْعَ لِلتِّجَارَةِ، أَوْ التَّكَسُّبَ بِالصِّنَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: ١٨٧] . فَاشْتِرَاطُ ذَلِكَ اشْتِرَاطٌ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالصِّنَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي غَيْرِ الِاعْتِكَافِ، فَفِي الِاعْتِكَافِ أَوْلَى، وَسَائِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ يُشْبِهُ ذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، فَلَا يَعْتَكِفْ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الِاعْتِكَافِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الْمُعْتَكِفِ يَعْمَلُ عَمَلُهُ مِنْ الْخَيَّاطِ وَغَيْرِهِ؟ قَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute