للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِذَا مُنِعَ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي غَيْرِ حَالِ الِاعْتِكَافِ، فَفِيهِ أَوْلَى.

فَأَمَّا الصَّنْعَةُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْهَا مَا يَكْتَسِبُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَيَجُوزُ مَا يَعْمَلُهُ لِنَفْسِهِ، كَخِيَاطَةِ قَمِيصِهِ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ رَوَى الْمَرُّوذِيُّ قَالَ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ الْمُعْتَكِفِ، تَرَى لَهُ أَنْ يَخِيطَ؟ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ إذَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَجُوزُ الْخَيَّاطَةُ فِي الْمَسْجِدِ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعِيشَةٌ أَوْ تَشَغُّلٌ عَنْ الِاعْتِكَافِ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِيهِ.

وَالْأَوْلَى أَنْ يُبَاحَ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، إذَا كَانَ يَسِيرًا، مِثْلَ أَنْ يَنْشَقَّ قَمِيصُهُ فَيَخِيطَهُ، أَوْ يَنْحَلَّ شَيْءٌ يَحْتَاجُ إلَى رَبْطٍ فَيَرْبِطَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَسِيرٌ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، فَجَرَى مَجْرَى لُبْسِ قَمِيصِهِ وَعِمَامَتِهِ وَخَلْعِهِمَا. (٢١٧٣)

فَصْلٌ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ التَّشَاغُلُ بِالصَّلَاةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الطَّاعَاتِ الْمَحْضَةِ، وَيَجْتَنِبُ مَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَلَا يُكْثِرُ الْكَلَامَ؛ لِأَنَّ مِنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطَهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» . وَيَجْتَنِبُ الْجِدَالَ وَالْمِرَاءَ، وَالسِّبَابَ وَالْفُحْشَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ الِاعْتِكَافِ، فَفِيهِ أَوْلَى. وَلَا يَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْطُلْ بِمُبَاحِ الْكَلَامِ لَمْ يَبْطُلْ بِمَحْظُورِهِ، وَعَكْسُهُ الْوَطْءُ.

وَلَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ لِحَاجَتِهِ، وَمُحَادَثَةِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْته، ثُمَّ قُمْت، فَانْقَلَبْت، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي - وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَى رِسْلِكُمَا، إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ. فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّه يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيت أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا. أَوْ قَالَ: شَيْئًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَيُّمَا رَجُلٍ اعْتَكَفَ، فَلَا يُسَابَّ، وَلَا يَرْفُثْ فِي الْحَدِيثِ، وَيَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالْحَاجَةِ - أَيْ وَهُوَ يَمْشِي - وَلَا يَجْلِسْ عِنْدَهُمْ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. (٢١٧٤)

فَصْلٌ: فَأَمَّا إقْرَاءُ الْقُرْآنِ، وَتَدْرِيسُ الْعِلْمِ وَدَرْسُهُ، وَمُنَاظَرَةُ الْفُقَهَاءِ وَمُجَالَسَتُهُمْ، وَكِتَابَةُ الْحَدِيثِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ، فَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ: فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ رِوَايَتَانِ.

وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، إذَا قَصَدَ بِهِ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى، لَا الْمُبَاهَاةَ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ، وَنَفْعُهُ يَتَعَدَّى، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>