أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ: «مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، غُفِرَ لَهُ» . وَأَحْرَمَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ إِيلْيَا. وَرَوَى النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ، قَالَ: أَهْلَلْت بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَلَمَّا أَتَيْت الْعُذَيْبَ لَقِيَنِي سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، وَأَنَا أُهِلُّ بِهِمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَا هَذَا بِأَفْقَهَ مِنْ بَعِيرِهِ. فَأَتَيْت عُمَرَ، فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ: «هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَهَذَا إحْرَامٌ بِهِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: ١٩٦] . إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك.
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ أَحْرَمُوا مِنْ الْمِيقَاتِ، وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا الْأَفْضَلَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا فَعَلَ هَذَا لِتَبْيِينِ الْجَوَازِ، قُلْنَا: قَدْ حَصَلَ بَيَانُ الْجَوَازِ بِقَوْلِهِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاقِيتِ. ثُمَّ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاؤُهُ يُحْرِمُونَ مِنْ بُيُوتِهِمْ، وَلَمَا تَوَاطَئُوا عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ، وَاخْتِيَارِ الْأَدْنَى، وَهُمْ أَهْلُ التَّقْوَى وَالْفَضْلِ، وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ، وَلَهُمْ مِنْ الْحِرْصِ عَلَى الْفَضَائِلِ وَالدَّرَجَاتِ مَا لَهُمْ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، فِي (مُسْنَدِهِ) ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَسْتَمْتِعُ أَحَدُكُمْ بِحِلِّهِ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ فِي إحْرَامِهِ» .
وَرَوَى الْحَسَنُ، أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ أَحْرَمَ مِنْ مِصْرِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَغَضِبَ، وَقَالَ: يَتَسَامَعُ النَّاسُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْرَمَ مِنْ مِصْرِهِ. وَقَالَ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ أَحْرَمَ مِنْ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ لَامَهُ فِيمَا صَنَعَ، وَكَرِهَهُ لَهُ. رَوَاهُمَا سَعِيدٌ، وَالْأَثْرَمُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: كَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ. وَلِأَنَّهُ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ، فَكُرِهَ، كَالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ. وَلِأَنَّهُ تَغْرِيرٌ بِالْإِحْرَامِ، وَتَعَرُّضٌ لِفِعْلِ مَحْظُورَاتِهِ، وَفِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ، فَكُرِهَ، كَالْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ.
قَالَ عَطَاءٌ: اُنْظُرُوا هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ الَّتِي وُقِّتَتْ لَكُمْ، فَخُذُوا بِرُخْصَةِ اللَّهِ فِيهَا، فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يُصِيبَ أَحَدُكُمْ ذَنْبًا فِي إحْرَامِهِ، فَيَكُونَ أَعْظَمَ لِوِزْرِهِ، فَإِنَّ الذَّنْبَ فِي الْإِحْرَامِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. فَأَمَّا حَدِيثُ الْإِحْرَامِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَفِيهِ ضَعْفٌ، يَرْوِيهِ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ؛ وَفِيهِمَا مَقَالٌ. وَيَحْتَمِلُ اخْتِصَاصَ هَذَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ دُونَ غَيْرِهِ، لِيَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدَيْنِ فِي إحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ أَحْرَمَ ابْنُ عُمَرَ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ يُحْرِمْ مِنْ غَيْرِهِ إلَّا مِنْ الْمِيقَاتِ.
وَقَوْلُ عُمَرَ لِلصَّبِّي: هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك. يَعْنِي فِي الْقِرَانِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، لَا فِي الْإِحْرَامِ مِنْ قَبْلِ الْمِيقَاتِ، فَإِنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ، بَيَّنَ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ ذَلِكَ إنْكَارُهُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ إحْرَامَهُ مِنْ مِصْرِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: إتْمَامُ الْعُمْرَةِ أَنْ تُنْشِئَهَا مِنْ بَلَدِك. وَمَعْنَاهُ أَنْ تُنْشِئَ لَهَا سَفَرًا مِنْ بَلَدِك، تَقْصِدُ لَهُ، لَيْسَ أَنْ تُحْرِمَ بِهَا مِنْ أَهْلِك. قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ سُفْيَانُ يُفَسِّرُهُ بِهَذَا. وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ بِهِ أَحْمَدُ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُفَسَّرَ بِنَفْسِ الْإِحْرَامِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute