الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالِانْتِقَالِ إلَى الْمُتْعَةِ عَنْ الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ، وَلَا يَأْمُرُهُمْ إلَّا بِالِانْتِقَالِ إلَى الْأَفْضَلِ، فَإِنَّهُ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَنْقُلَهُمْ مِنْ الْأَفْضَلِ إلَى الْأَدْنَى، وَهُوَ الدَّاعِي إلَى الْخَيْرِ، الْهَادِي إلَى الْفَضْلِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِتَأَسُّفِهِ عَلَى فَوَاتِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِقَالِهِ وَحِلِّهِ، لِسَوْقِهِ الْهَدْيَ، وَهَذَا ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ. الثَّالِثُ، أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِفِعْلِهِ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْقَوْلِ، لِاحْتِمَالِ اخْتِصَاصِهِ بِفِعْلِهِ دُونَ غَيْرِهِ، كَنَهْيِهِ عَنْ الْوِصَالِ مَعَ فِعْلِهِ لَهُ، وَنِكَاحِهِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ، مَعَ قَوْلِهِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» . فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: كَانَتْ مُتْعَةُ الْحَجِّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قُلْنَا: هَذَا قَوْلُ صَحَابِيٍّ، يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ وَقَوْلَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَعْلَمُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: ١٩٦] وَهَذَا عَامٌّ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إبَاحَةِ التَّمَتُّعِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي فَضْلِهِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَرَوَى سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَنْبَأْنَا حَجَّاجٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الْمُتْعَةُ لَنَا خَاصَّةً، أَوْ هِيَ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: بَلْ هِيَ لِلْأَبَدِ» .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «أَلِعَامِنَا أَوْ لِلْأَبَدِ؟ قَالَ: بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ، دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوُ هَذَا، وَمَعْنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يُجِيزُونَ التَّمَتُّعَ، وَيَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ شَرَعَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَجَوَّزَ الْمُتْعَةَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ طَاوُسٌ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَفْجَرَ الْفُجُورِ، وَيَقُولُونَ: إذَا انْفَسَخَ صَفَرْ، وَبَرَا الدَّبَرْ، وَعَفَا الْأَثَرُ، حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرْ. فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَعْتَمِرُوا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَدَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. رَوَاهُ سَعِيدٌ. وَقَدْ خَالَفَ أَبَا ذَرٍّ عَلِيٌّ، وَسَعْدٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ، وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ عِمْرَانُ: «تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ» ، فَقَالَ فِيهَا رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: «فَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي الْمُتْعَةَ» - وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute