وَقَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: أَكْرَهُ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا خَيْرَ فِيمَا يُكَالُ بِمَا يُكَالُ جُزَافًا، وَلَا فِيمَا يُوزَنُ بِمَا يُوزَنُ جُزَافًا، اتَّفَقَتْ الْأَجْنَاسُ أَوْ اخْتَلَفَتْ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْمَكِيلِ بِالْمَوْزُونِ جُزَافًا، وَقَالَ ذَلِكَ الْقَاضِي وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مُجَازَفَةً» . وَلِأَنَّهُ بَيْعُ مَكِيلٍ بِمَكِيلٍ، أَشْبَهَ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ.
وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» . وَلِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: ٢٧٥] . عَامٌ خَصَّصْنَاهُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَجِبُ التَّمَاثُلُ فِيهِ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَجِبُ الْبَقَاءُ عَلَى الْعُمُومِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِ، فَجَازَ جُزَافًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ كَالْمَكِيلِ بِالْمَوْزُونِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ حَقِيقَةُ الْفَضْلِ لَا يَمْنَعُ، فَاحْتِمَالُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَانِعًا، وَحَدِيثُهُمْ أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: «نَهَى أَنْ تُبَاعَ الصُّبْرَةُ لَا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا مِنْ التَّمْرِ، بِالصُّبْرَةِ لَا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا مِنْ التَّمْرِ» .
ثُمَّ هُوَ مَخْصُوصٌ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَحِلَّ النِّزَاعِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْقِيَاسِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، يَجِبُ التَّمَاثُلُ فِيهِ، فَمُنِعَ مِنْ بَيْعِهِ مُجَازَفَةً؛ لِفَوَاتِ الْمُمَاثَلَةِ الْمَشْرُوطَةِ، وَفِي الْجِنْسَيْنِ لَا يُشْتَرَطُ التَّمَاثُلُ، وَلَا يُمْنَعُ حَقِيقَةُ التَّفَاضُلِ، فَاحْتِمَالُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَانِعًا. (٢٨١١) فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِهَذِهِ الصُّبْرَةِ. وَهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَعْلَمَانِ كَيْلَهُمَا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَإِنْ عَلِمَا كَيْلَهُمَا وَتُسَاوِيهِمَا، صَحَّ الْبَيْعُ؛ لِوُجُودِ التَّمَاثُلِ الْمُشْتَرَطِ. وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِهَذِهِ الصُّبْرَةِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ. فَكِيلَتَا فَكَانَتَا سَوَاءٌ، صَحَّ الْبَيْعُ، وَإِلَّا فَلَا.
وَإِنْ بَاعَ صُبْرَةً بِصُبْرَةٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، صَحَّ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ بَيْعَ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ جُزَافًا. وَإِنْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِهَذِهِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ. فَكِيلَتَا فَكَانَتَا سَوَاءً، صَحَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ زَادَتْ إحْدَاهُمَا فَرَضِيَ صَاحِبُ النَّاقِصَةِ بِهَا مَعَ نَقْصِهَا، أَوْ رَضِيَ صَاحِبُ الزَّائِدَةِ بِرَدِّ الْفَضْلِ عَلَى صَاحِبِهِ، جَازَ، وَإِنْ امْتَنَعَا فُسِخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا. ذَكَرَ هَذَا الْفَصْلَ الْقَاضِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
(٢٨١٢) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ قَسْمُ الْمَكِيلِ وَزْنًا، وَقَسْمُ الْمَوْزُونِ كَيْلًا، وَقَسْمُ الثِّمَارِ خَرْصًا، وَقَسْمُ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ حَقٍّ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا. وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ بَطَّةَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بَيْعٌ، فَيَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ، وَيُمْنَعُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا تَعَيَّنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ، فَقَدْ اشْتَرَى نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِمَّا تَعَيَّنَ لَهُ بِنَصِيبِهِ فِيمَا تَعَيَّنَ لِشَرِيكِهِ.
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا إفْرَازُ حَقٍّ؛ بِدَلِيلِ اعْتِبَارِ تَعْدِيلِ السِّهَامِ، وَدُخُولِ الْقُرْعَةِ فِيهَا، وَلُزُومِهَا بِهَا، وَالْإِجْبَارِ عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إلَى لَفْظِ بَيْعٍ وَلَا تَمْلِيكٍ، وَلَا يَدْخُلُهَا خِيَارٌ، وَلَا تَجُوزُ إلَّا بِقَدْرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute