دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ، وَكَوْنِهَا مُخَالِفَةً لِرِوَايَاتٍ أُخَرَ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهَا رِوَايَةً، كَسَائِرِ الرِّوَايَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِغَيْرِهَا، لَكِنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَالْحُكْمُ فِي السَّمْنِ كَالْحُكْمِ فِي الزُّبْدِ.
وَأَمَّا اللَّبَنُ بِالْمَخِيضِ الَّذِي فِيهِ زُبْدُهُ، فَلَا يَجُوزُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: اللَّبَنُ بِالْمَخِيضِ لَا خَيْرَ فِيهِ. وَيَتَخَرَّجُ الْجَوَازُ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَأَمَّا اللَّبَنُ بِاللِّبَأِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ، جَازَ مُتَمَاثِلًا؛ لِأَنَّهُ لَبَنٌ بِلَبَنٍ.
وَإِنْ مَسَّتْهُ النَّارُ لَمْ يَجُزْ. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا، أَنَّهُ يَجُوزُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ النَّارَ عَقَدَتْ أَجْزَاءَ أَحَدِهِمَا، وَذَهَبَتْ بِبَعْضٍ رُطُوبَتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِمَا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ، كَالْخُبْزِ بِالْعَجِينِ، وَالْمَقْلِيَّةِ بِالنِّيئَةِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا بَيْعُ النَّوْعِ مِنْ فُرُوعِ اللَّبَنِ بِنَوْعِهِ، فَمَا فِيهِ خَلْطٌ مِنْ غَيْرِ اللَّبَنِ، كَالْكُشْكِ وَالْكَامَخِ، وَنَحْوِهِمَا، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِنَوْعِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِغَيْرِهِ، فَهُوَ كَمَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُ، أَوْ فِيهِ غَيْرُهُ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ لِمَصْلَحَتِهِ، فَيَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ إذَا تَسَاوَيَا فِي النَّشَافَةِ وَالرُّطُوبَةِ، فَيَبِيعُ الْمَخِيضَ بِالْمَخِيضِ، وَاللِّبَأَ بِاللِّبَأِ، وَالْجُبْنَ بِالْجُبْنِ، وَالْمَصْلَ بِالْمَصْلِ، وَالْأَقِطَ بِالْأَقِطِ، وَالزُّبْدَ بِالزُّبْدِ، وَالسَّمْنَ بِالسَّمْنِ، مُتَسَاوِيًا.
وَيُعْتَبَرُ التَّسَاوِي بَيْنَ الْأَقِطِ بِالْأَقِطِ بِالْكَيْلِ؛ لِأَنَّهُ قُدِّرَ بِالصَّاعِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَهُوَ يُشْبِهُ الْمَكِيلَاتِ، وَكَذَلِكَ الْمَصْلُ وَالْمَخِيضُ. وَيُبَاعُ الْخُبْزُ بِالْخُبْزِ بِالْوَزْنِ؛ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ وَلَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ، فَأَشْبَهَ الْخُبْزَ. وَكَذَلِكَ الزُّبْدُ وَالسَّمْنُ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يُبَاعَ السَّمْنُ بِالْكَيْلِ. وَلَا يُبَاعُ نَاشِفٌ مِنْ ذَلِكَ بِرَطْبٍ، كَمَا لَا يُبَاعُ الرُّطَبُ بِالتَّمْرِ وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ أَنْ لَا يُبَاعَ رَطْبٌ مِنْ ذَلِكَ بِرَطْبِ كَاللَّحْمِ.
وَأَمَّا بَيْعُ مَا نُزِعَ مِنْ اللَّبَنِ بِنَوْعٍ آخَرَ، كَالزُّبْدِ، وَالسَّمْنِ، وَالْمَخِيضِ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الزُّبْدِ وَالسَّمْنِ بِالْمَخِيضِ، مُتَمَاثِلًا وَمُتَفَاضِلًا؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، أَشْبَهَا اللَّحْمَ بِالشَّحْمِ. وَمِمَّنْ أَجَازَ بَيْعَ الزُّبْدِ بِالْمَخِيضِ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَلِأَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي فِي الزُّبْدِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَهُوَ يَسِيرٌ، فَأَشْبَهَ الْمِلْحَ فِي الشَّيْرَجِ. وَبَيْعُ السَّمْنِ بِالْمَخِيضِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ؛ لِخُلُوِّ السَّمْنِ مِنْ الْمَخِيضِ.
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزُّبْدِ بِالسَّمْنِ؛ لِأَنَّ فِي الزُّبْدِ لَبَنًا يَسِيرًا، وَلَا شَيْءَ فِي السَّمْنِ، فَيَخْتَلُّ التَّمَاثُلُ، وَلِأَنَّهُ مُسْتَخْرَجٌ مِنْ الزُّبْدِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِهِ، كَالزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ الْقَاضِي: عِنْدِي يَجُوزُ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ فِي الزُّبْدِ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُهُ بِالْمَخِيضِ وَبِزُبْدٍ مِثْلِهِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ التَّمَاثُلَ وَاجِبٌ بَيْنَهُمَا، وَانْفِرَادُ أَحَدِهِمَا بِوُجُودِ اللَّبَنِ فِيهِ، يُخِلُّ بِالتَّمَاثُلِ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِهِ، كَتَمْرٍ مَنْزُوعِ النَّوَى بِتَمْرٍ فِيهِ نَوَاهُ، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْفَرِدُ بِرُطُوبَةٍ لَا تُوجَدُ فِي الْآخَرِ، فَأَشْبَهَ الرُّطَبَ بِالتَّمْرِ، وَالْعِنَبَ بِالزَّبِيبِ، وَكُلَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute