فَتَسْقُطُ الرُّخْصَةُ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، بَطَلَ الْعَقْدُ الثَّانِي. فَإِنْ اشْتَرَى عَرِيَّتَيْنِ أَوْ بَاعَهُمَا، وَفِيهِمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، جَازَ، وَجْهًا وَاحِدًا. (٢٨٦٩) الْفَصْلُ الثَّالِثُ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مَوْهُوبَةً لِبَائِعِهَا. هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّهُ شَرْطٌ.
وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ، قَالَ: سَمِعْت أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْعَرَايَا. فَقَالَ: الْعَرَايَا أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الْجَارَ أَوْ الْقَرَابَةَ لِلْحَاجَةِ أَوْ الْمَسْكَنَةِ، فَلِلْمُعْرِي أَنْ يَبِيعَهَا مِمَّنْ شَاءَ. وَقَالَ مَالِكٌ: بَيْعُ الْعَرَايَا الْجَائِزُ هُوَ أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ نَخَلَاتٍ مِنْ حَائِطِهِ، ثُمَّ يَكْرَهُ صَاحِبُ الْحَائِطِ دُخُولَ الرَّجُلِ الْمُعْرِي؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مَعَ أَهْلِهِ فِي الْحَائِطِ، فَيُؤْذِيهِ دُخُولُ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْعَرِيَّةَ فِي اللُّغَةِ هِبَةُ ثَمَرَةِ النَّخِيلِ عَامًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْإِعْرَاءُ، أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ ثَمَرَةَ نَخْلِهِ عَامَهَا ذَلِكَ. قَالَ الشَّاعِرُ الْأَنْصَارِيُّ يَصِفُ النَّخْلَ:
لَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رَجَبِيَّةٍ ... وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ
يَقُولُ: إنَّا نُعْرِيهَا النَّاسَ. فَتَعَيَّنَ صَرْفُ اللَّفْظِ إلَى مَوْضُوعِهِ لُغَةً وَمُقْتَضَاهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَلَنَا، حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ، فِي تَصْرِيحِهِ بِجَوَازِ بَيْعِهَا مِنْ غَيْرِ الْوَاهِبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِحَاجَةِ الْوَاهِبِ لَمَا اُخْتُصَّ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ، لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ الْحَاجَةِ بِهَا. وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا بِالتَّمْرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ صَاحِبِ الْحَائِطِ الَّذِي لَهُ النَّخِيلُ الْكَثِيرُ يُعْرِيهِ النَّاسَ، أَنَّهُ لَا يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ ثَمَنِ الْعَرِيَّةِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ اشْتَرَطَ كَوْنَهَا مَوْهُوبَةً لِبَائِعِهَا؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الرُّخْصَةِ حَاجَةُ الْمُشْتَرِي إلَى أَكْلِ الرُّطَبِ، وَلَا ثَمَنَ مَعَهُ سِوَى التَّمْرِ، فَمَتَى وَجَدَ ذَلِكَ، جَازَ الْبَيْعُ.
وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ كَوْنِهَا مَوْهُوبَةً مَعَ اشْتِرَاطِ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي إلَى أَكْلِهَا رُطَبًا، وَلَا ثَمَنَ مَعَهُ، يُفْضِي إلَى سُقُوطِ الرُّخْصَةِ، إذْ لَا يَكَادُ يَتَّفِقُ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ إذَا كَانَ مَوْهُوبًا، جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْهُوبًا، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَمَا جَازَ بَيْعُهُ لِوَاهِبِهِ، جَازَ لِغَيْرِهِ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَرِيَّةً لِتَعَرِّيهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالْبَيْعِ.
(٢٨٧٠) الْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِخَرْصِهَا مِنْ التَّمْرِ، لَا أَقَلَّ مِنْهُ وَلَا أَكْثَرَ وَيَجِبُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute