وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِصَرِيحِهَا عَلَى أَنَّ مَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِمَا وَقَعَ فِيهِ لَا يَنْجُسُ، وَبِمَفْهُومِهَا عَلَى أَنَّ مَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ نَجِسٌ وَإِنْ كَثُرَ، وَأَنَّ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ بِمُجَرَّدِ مُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ.
فَأَمَّا نَجَاسَةُ مَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَغَيَّرَتْ لِلْمَاءِ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رَائِحَةً، أَنَّهُ نَجِسٌ مَا دَامَ كَذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَقَالَ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْمَاءِ إذَا تَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، قَالَ: لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَشْرَبُ، وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَيْتَةَ، فَإِذَا صَارَتْ الْمَيْتَةُ فِي الْمَاءِ فَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، فَذَلِكَ طَعْمُ الْمَيْتَةِ وَرِيحُهَا، فَلَا يَحِلُّ لَهُ، وَذَلِكَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ.
وَقَالَ الْخَلَّالُ: إنَّمَا قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَرْوِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ عُمَرَ، وَرِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ، وَابْنُ مَاجَهْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ رِشْدِينُ. وَأَمَّا مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ إذَا لَاقَتْهُ النَّجَاسَةُ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَنْجُسُ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالُوا: الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ؛ لِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ.
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ؟ - وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ، وَالنَّتِنُ - فَقَالَ: إنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ الْخَلَّالُ: قَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ الْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، تَرِدُهَا السِّبَاعُ وَالْكِلَابُ وَالْحُمُرُ، وَعَنْ الطَّهَارَةِ بِهَا، فَقَالَ: لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا، وَلَنَا مَا غَبَرَ طَهُورٌ» وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ إحْدَى صِفَاتُ النَّجَاسَةِ، فَلَمْ يَنْجُسْ بِهَا كَالزَّائِدِ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ، فَقَالَ إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute