للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ قَالَ: «إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا» . وَهَذَا دَاخِلٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَحَلَّ بِالصُّلْحِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ دُخُولَهُ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ هَذَا يُوجَدُ فِي الصُّلْحِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يُحِلُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ بِمَعْنَى الْهِبَةِ، فَإِنَّهُ يُحِلُّ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ، الْإِسْقَاطُ يُحِلُّ لَهُ تَرْكَ أَدَاءِ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ.

الثَّانِي، أَنَّهُ لَوْ حَلَّ بِهِ الْمُحَرَّمُ، لَكَانَ الصُّلْحُ صَحِيحًا، فَإِنَّ الصُّلْحَ الْفَاسِدَ لَا يُحِلُّ الْحَرَامَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى تَنَاوُلِ الْمُحَرَّمِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، كَمَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى اسْتِرْقَاقِ حُرٍّ، أَوْ إحْلَالِ بُضْعٍ مُحَرَّمٍ، أَوْ صَالَحَهُ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ. وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ.

وَعَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا، فَإِنَّهُمْ يُبِيحُونَ لِمَنْ لَهُ حَقٌّ يَجْحَدُهُ غَرِيمُهُ، أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِهِ أَوْ دُونَهُ، فَإِذَا حَلَّ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَا عِلْمِهِ، فَلَأَنْ يَحِلَّ بِرِضَاهُ وَبَذْلِهِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَّ مَعَ اعْتِرَافِ الْغَرِيمِ، فَلَأَنْ يَحِلَّ مَعَ جَحْدِهِ وَعَجْزِهِ عَنْ الْوُصُولِ إلَى حَقِّهِ إلَّا بِذَلِكَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ هَاهُنَا يَأْخُذُ عِوَضَ حَقِّهِ الثَّابِتِ لَهُ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدْفَعُهُ لِدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُ، وَقَطْعِ الْخُصُومَةِ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ، وَلِأَنَّهُ صُلْحٌ يَصِحُّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، فَصَحَّ مَعَ الْخَصْمِ كَالصُّلْحِ مَعَ الْإِقْرَارِ. يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ إذَا صَحَّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ، فَلَأَنْ يَصِحَّ مَعَ الْخَصْمِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ أَوْلَى.

وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ مُعَاوَضَةٌ. قُلْنَا: فِي حَقِّهِمَا أَمْ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلِّمٌ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُ عِوَضَ حَقِّهِ مِنْ الْمُنْكِرِ لِعِلْمِهِ بِثُبُوتِ حَقِّهِ عِنْدَهُ، فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ فِي حَقِّهِ، وَالْمُنْكِرُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَدْفَعُ الْمَالَ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ وَالْيَمِينِ عَنْهُ، وَيُخَلِّصُهُ مِنْ شَرِّ الْمُدَّعِي، فَهُوَ أَبْرَأُ فِي حَقِّهِ، وَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ ثُبُوتُ الْمُعَاوَضَةِ فِي حَقِّ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا شَهِدَ بِحُرِّيَّتِهِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَيَكُونُ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَاسْتِنْقَاذًا لَهُ مِنْ الرِّقِّ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، كَذَا هَاهُنَا.

إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَا يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُعْتَقِدًا أَنَّ مَا ادَّعَاهُ حَقٌّ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا حَقَّ عَلَيْهِ، فَيَدْفَعُ إلَى الْمُدَّعِي شَيْئًا افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ، وَقَطْعًا لِلْخُصُومَةِ، وَصِيَانَةً لِنَفْسِهِ عَنْ التَّبَذُّلِ، وَحُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، فَإِنَّ ذَوِي النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ وَالْمُرُوءَةِ يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَيَرَوْنَ دَفْعَ ضَرَرِهَا عَنْهُمْ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِهِمْ، وَالشَّرْعُ لَا يَمْنَعهُمْ مِنْ وِقَايَةِ أَنْفُسِهِمْ وَصِيَانَتِهَا، وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُمْ بِبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ، وَالْمُدَّعِي يَأْخُذُ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ الثَّابِتِ لَهُ، فَلَا يَمْنَعُهُ الشَّرْعُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا، سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، بِقَدْرِ حَقِّهِ أَوْ دُونَهُ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ بِقَدْرِهِ فَهُوَ

<<  <  ج: ص:  >  >>