وَالثَّانِي، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَقِّ الْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَالْمُحْتَالُ يَدَّعِي نَقْلَهُ، وَالْمُحِيلُ يُنْكِرُهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يَحْلِفُ الْمُحْتَالُ وَيَثْبُتُ حَقَّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَيَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ، وَيَسْقُطُ عَنْ الْمُحِيلِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، يَحْلِفُ الْمُحِيلُ، وَيَبْقَى حَقُّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ: إنْ كَانَ الْمُحْتَالُ قَدْ قَبَضَ الْحَقَّ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَتَلِفَ فِي يَدِهِ، فَقَدْ بَرِئَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَلِفَ بِتَفْرِيطٍ، وَكَانَ الْمُحْتَالُ مُحِقًّا، فَقَدْ أَتْلَفَ مَالَهُ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا، ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذِمَّةِ الْآخَرِ مِثْلُ مَا فِي ذِمَّتِهِ لَهُ، فَيَتَقَاصَّانِ، وَيَسْقُطَانِ.
وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَالْمُحَالُ قَدْ قَبَضَ حَقَّهُ، وَتَلِفَ فِي يَدِهِ، وَبَرِئَ مِنْهُ الْمُحِيلُ بِالْحَوَالَةِ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ بِتَسَلُّمِهِ، وَالْمُحِيلُ يَقُولُ: قَدْ تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِ وَكِيلِي بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ. فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَتْلَفْ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ طَلَبَهُ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ مِثْلَ مَا لَهُ فِي يَدِهِ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِقَبْضِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْهُ ثُمَّ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ أَخْذَهُ مِنْهُ، وَيَمْلِكَ الْمُحْتَالُ مُطَالَبَتَهُ بِدَيْنِهِ. وَقِيلَ: يَمْلِكُ الْمُحِيلُ أَخْذَهُ مِنْهُ، وَلَا يَمْلِكَ الْمُحْتَالُ الْمُطَالَبَةَ بِدَيْنِهِ؛ لِاعْتِرَافِهِ بِبَرَاءَةِ الْمُحِيلِ مِنْهُ بِالْحَوَالَةِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ إنْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ، فَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ قَبَضَ هَذَا الْمَالَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ، فَعَلَى كِلَا الْحَالَيْنِ، هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْمُطَالَبَةِ بِمِثْلِ هَذَا الْمَالِ الْمَقْبُوضِ مِنْهُ، فِي قَوْلِهِمَا جَمِيعًا، فَلَا وَجْهَ لِإِسْقَاطِهِ، وَلَا مَوْضِعَ لِلْبَيِّنَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي لَفْظٍ يُسْمَعُ، وَلَا فِعْلٍ يُرَى، وَإِنَّمَا يَدَّعِي الْمُحِيلُ بَيِّنَةً، وَهَذَا لَا تَشْهَدُ بِهِ الْبَيِّنَةُ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا. (٣٥٦٦)
فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِالْعَكْسِ، فَقَالَ: أَحَلْتُك بِدَيْنِك. فَقَالَ: بَلْ وَكَّلْتنِي. فَفِيهَا الْوَجْهَانِ أَيْضًا؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ. فَإِنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ. فَحَلَفَ، بَرِئَ مِنْ حَقِّ الْمُحْتَالِ، وَلِلْمُحْتَالِ قَبَضَ الْمَالِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بُقُولِهِمَا مَعًا، فَإِذَا قَبَضَهُ كَانَ لَهُ بِحَقِّهِ. وَإِنْ قُلْنَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحْتَالِ، فَحَلَفَ كَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُحِيلِ بِحَقِّهِ، وَمُطَالَبَةُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا وَكِيلٌ وَإِمَّا مُحْتَالٌ.
فَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ قَبْلَ أَخْذِهِ مِنْ الْمُحِيلِ، فَلَهُ أَخْذُ مَا قَبَضَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمُحِيلَ يَقُولُ: هُوَ لَك. وَالْمُحْتَالُ يَقُولُ: هُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِي، وَلِي مِثْلُهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي أَخْذِهِ ضِمْنًا. فَإِذَا أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ حَصَلَ غَرَضُهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْمُحِيلِ شَيْئًا. وَإِنْ اسْتَوْفَى مِنْ الْمُحِيلِ، رَجَعَ عَلَى الْمُحَالِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَثَبَّتَتْ الْوَكَالَةُ بِيَمِينِ الْمُحْتَالِ، وَبَقِيَ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحِيلِ. وَالثَّانِي، لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَرِفُ أَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا الْمُحْتَالُ ظَلَمَهُ بِأَخْذِ مَا كَانَ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ الْحَوَالَةَ، فَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ بِتَفْرِيطٍ، أَوْ أَتْلَفَهَا، سَقَطَ حَقُّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُحِقًّا فَقَدْ أَتْلَفَ حَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فَقَدْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute