إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَوْ خَرَجَ مُسْتَحَقًّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْبَائِعِ شَيْءٌ.
وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى ضَمَانِ مَا لَمْ يَجِبْ إذَا كَانَ مُفْضِيًا إلَى الْوُجُوبِ، كَالْجَعَالَةِ. وَأَلْفَاظُ ضَمَانِ الْعُهْدَةِ أَنْ يَقُولَ: ضَمِنْت عُهْدَتَهُ أَوْ ثَمَنَهُ أَوْ دَرَكَهُ. أَوْ يَقُولَ لِلْمُشْتَرِي: ضَمِنْت خَلَاصَك مِنْهُ. أَوْ يَقُولَ: مَتَى خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا فَقَدْ ضَمِنْت لَك الثَّمَنَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّهُ قَالَ: ضَمِنْت عُهْدَته، أَوْ ضَمِنَتْ لَك الْعُهْدَةَ. وَالْعُهْدَةُ فِي الْحَقِيقَةِ: هِيَ الصَّكُّ الْمَكْتُوبُ فِيهِ الِابْتِيَاعُ.
هَكَذَا فَسَّرَهُ بِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ، فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ صَارَتْ فِي الْعُرْفِ عِبَارَةً عَنْ الدَّرْكِ وَضَمَانِ الثَّمَنِ، وَالْكَلَامُ الْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ دُونَ اللُّغَوِيَّةِ، كَالرَّاوِيَةِ، تُحْمَلُ عِنْدَ إطْلَاقِهَا عَلَى الْمَزَادَةِ، لَا عَلَى الْجَمَلِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَوْضُوعَ. فَأَمَّا إنْ ضَمِنَ لَهُ خَلَاصَ الْمَبِيعِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ حُرًّا أَوْ مُسْتَحَقًّا، لَا يَسْتَطِيعُ تَخْلِيصَهُ، وَلَا يَحِلُّ.
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ بَاعَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، وَضَمِنَ لَهُ الْخَلَاصَ، فَقَالَ: كَيْفَ يَسْتَطِيعُ الْخَلَاصَ إذَا خَرَجَ حُرًّا؟ فَإِنْ ضَمِنَ عُهْدَةَ الْمَبِيعِ وَخَلَاصَهُ، بَطَلَ فِي الْخَلَاصِ. وَهَلْ يَصِحُّ فِي الْعُهْدَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. إذَا ثَبَتَ صِحَّةُ ضَمَانِ الْعُهْدَةِ، فَالْكَلَامُ فِيمَا يَلْزَمُ الضَّامِنَ، فَنَقُولُ: إنَّ اسْتِحْقَاقَ رُجُوعِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ لَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ حَادِثٍ بَعْدَ الْعَقْدِ، أَوْ مُقَارِنٍ لَهُ، فَأَمَّا الْحَادِثُ فَمِثْلُ تَلَفِ الْمَبِيعِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَصْبِ مِنْ يَدِهِ أَوْ يَتَقَايَلَانِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الضَّامِنِ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ الِاسْتِحْقَاقَ الْمَوْجُودَ حَالَ الْعَقْدِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الضَّامِنِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ مَا لَمْ يَجِبْ جَائِزٌ، وَهَذَا مِنْهُ. وَأَمَّا إنْ كَانَ بِسَبَبٍ مُقَارِنٍ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ لَا تَفْرِيطَ مِنْ الْبَائِعِ فِيهِ، كَأَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَأْخُذُ الثَّمَنَ مِنْ الشَّفِيعِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ وَلَا الضَّامِنِ. وَمَتَى لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ شَيْءٌ، لَمْ يَجِبْ عَلَى الضَّامِنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَأَمَّا إنْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ الْمَبِيعِ بِسَبَبٍ مُقَارِنٍ لِتَفْرِيطٍ مِنْ الْبَائِعِ، بِاسْتِحْقَاقٍ أَوْ حُرِّيَّةٍ أَوْ رَدٍّ بِعَيْبٍ قَدِيمٍ، فَلَهُ الرُّجُوعُ إلَى الضَّامِنِ، وَهَذَا ضَمَانُ الْعُهْدَةِ، وَإِنْ أَرَادَ أَخْذَ أَرْشِ الْعَيْبِ، رَجَعَ عَلَى الضَّامِنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَزِمَهُ كُلُّ الثَّمَنِ، لَزِمَهُ بَعْضُهُ إذَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَسَوَاءٌ ظَهَرَ كُلُّ الْمَبِيعِ مُسْتَحَقًّا أَوْ بَعْضُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ بَعْضُهُ مُسْتَحَقًّا، بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فَقَدْ خَرَجَتْ الْعَيْنُ كُلُّهَا مِنْ يَدِهِ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ، وَلَكِنْ اسْتَحَقَّ رَدَّهَا، فَإِنْ رَدَّهَا كُلَّهَا فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَمْسَكَ الْمَمْلُوكَ مِنْهَا، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْأَرْشِ، كَمَا لَوْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا.
وَلَوْ بَاعَهُ عَيْنًا أَوْ أَقْرِضَهُ شَيْئًا بِشَرْطِ أَنْ يَرْهَنَ عِنْدَهُ عَيْنَهَا، فَتَكَفَّلَ رَجُلٌ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ، لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الرَّاهِنَ إقْبَاضُهُ وَتَسْلِيمُهُ، فَلَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ مَا لَا يَلْزَمُ الْأَصْلَ. وَإِنْ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي قِيمَةَ مَا يَحْدُثُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute