للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذَا اخْتَلَفَ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ، لَمْ يَخْلُ مِنْ سِتَّةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَخْتَلِفَا فِي التَّلَفِ، فَيَقُولَ الْوَكِيلُ تَلِفَ مَالُكَ فِي يَدِي، أَوْ الثَّمَنُ الَّذِي قَبَضْته ثَمَنَ مَتَاعِك تَلِفَ فِي يَدِي. فَيُكَذِّبُهُ الْمُوَكِّلُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، وَهَذَا مِمَّا يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، فَلَا يُكَلَّفُ ذَلِكَ كَالْمُودِعِ.

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ لِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ، كَالْأَبِ، وَالْوَصِيِّ، وَأَمِينِ الْحَاكِمِ، وَالْمُودِعِ، وَالشَّرِيكِ، وَالْمُضَارِبِ، وَالْمُرْتَهِنِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كُلِّفَ ذَلِكَ مَعَ تَعَذُّرِهِ عَلَيْهِ، لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْأَمَانَات مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، فَيَلْحَقُهُمْ الضَّرَرُ.

قَالَ الْقَاضِي: إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ التَّلَفَ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ، كَالْحَرِيقِ وَالنَّهْبِ وَشِبْهِهِمَا، فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى وُجُودِ هَذَا الْأَمْرِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، ثُمَّ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي تَلَفِهَا بِذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْأَمْرِ الظَّاهِرِ مِمَّا لَا يَخْفَى، فَلَا تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ، أَنْ يَخْتَلِفَا فِي تَعَدِّي الْوَكِيلِ أَوْ تَفْرِيطِهِ فِي الْحِفْظِ، وَمُخَالَفَتِهِ أَمْرَ مُوَكِّلِهِ، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ أَنَّك حَمَلْت عَلَى الدَّابَّةِ فَوْقَ طَاقَتِهَا، أَوْ حَمَلْت عَلَيْهَا شَيْئًا لِنَفْسِك، أَوْ فَرَّطْت فِي حِفْظِهَا، أَوْ لَبِسْت الثَّوْبَ، أَوْ أَمَرْتُك بِرَدِّ الْمَالِ فَلَمْ تَفْعَلْ. وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ أَيْضًا مَعَ يَمِينِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَلِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ.

وَمَتَى ثَبَتَ التَّلَفُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَدِّيهِ، إمَّا لِقَبُولِ قَوْلِهِ، وَإِمَّا بِإِقْرَارِ مُوَكِّلِهِ أَوْ بَيِّنَةٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ تَلِفَ الْمَتَاعُ الَّذِي أُمِرَ بِبَيْعِهِ، أَوْ بَاعَهُ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ فَتَلِفَ الثَّمَنُ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِجَعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جَعْلٍ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمَالِكِ فِي الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ، فَكَانَ الْهَلَاكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ، وَجَرَى مَجْرَى الْمُودِعِ وَالْمُضَارِبِ وَشِبْهِهِمَا. وَإِنْ تَعَدَّى أَوْ فَرَّطَ، ضَمِنَ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمَنَاءِ. وَلَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ سِلْعَةً وَقَبَضَ ثَمَنَهَا، فَتَلِفَ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ، وَاسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَهُ، فَالرُّجُوعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ بَاعَ بِنَفْسِهِ.

الْحَالُ الثَّالِثَةُ، أَنْ يَخْتَلِفَا فِي التَّصَرُّفِ، فَيَقُولَ الْوَكِيلُ: بِعْت الثَّوْبَ وَقَبَضْت الثَّمَنَ، فَتَلِفَ. فَيَقُولُ الْمُوَكِّلُ: لَمْ تَبِعْ وَلَمْ تَقْبِضْ. أَوْ يَقُولَ: بِعْت وَلَمْ تَقْبِضْ شَيْئًا. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالْقَبْضَ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِمَا، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ الْمُجْبَرَةِ عَلَى النِّكَاحِ فِي تَزْوِيجِهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ.

وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِحَقٍّ لَغَيْرِهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ. وَإِنْ وَكَّلَ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ، فَاشْتَرَاهُ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، فَقَالَ: اشْتَرَيْته بِأَلْفِ. وَقَالَ: بَلْ اشْتَرَيْته بِخَمْسِمِائَةٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَيَّنَ لَهُ الشِّرَاءَ بِمَا ادَّعَاهُ، فَقَالَ: اشْتَرِ لِي عَبْدًا بِأَلْفٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>