وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِثَمَنِهِ، لَا بِقِيمَتِهِ، وَفِي غَيْرِهِ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ، فَافْتَرَقَا.
فَأَمَّا الْمُنْتَقِلُ بِعِوَضٍ فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، مَا عِوَضُهُ الْمَالُ، كَالْبَيْعِ، فَهَذَا فِيهِ الشُّفْعَةُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، فَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ عَقْدٍ جَرَى مَجْرَى الْبَيْعِ، كَالصُّلْحِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ، وَالصُّلْحِ عَنْ الْجِنَايَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ، وَالْهِبَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا ثَوَابٌ مَعْلُومٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ ثَبَتَتْ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ، وَهَذَا مِنْهَا. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ قَالُوا: لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي الْهِبَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا ثَوَابٌ حَتَّى يَتَقَابَضَا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْقَبْضِ، فَأَشْبَهَتْ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْقَبْضِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ، كَالْبَيْعِ، وَلَا يَصِحُّ مَا قَالُوهُ مِنْ اعْتِبَارِ لَفْظِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ صَرَفَ اللَّفْظَ عَنْ مُقْتَضَاهُ، وَجَعَلَهُ عِبَارَةً عَنْ الْبَيْعِ، خَاصَّةً عِنْدَهُمْ، فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهَا النِّكَاحُ الَّذِي لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي، مَا انْتَقَلَ بِعِوَضٍ غَيْرِ الْمَالِ، نَحْوُ أَنْ يَجْعَلَ الشِّقْصَ مَهْرًا، أَوْ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ، أَوْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِهِ لِغَيْرِ الْبَيْعِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، حَكَاهُ عَنْهُمْ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَاخْتَارَهُ.
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِمَ يَأْخُذُهُ؟ فَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِقِيمَتِهِ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ قِيَاسُ قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ؛ لِأَنَّنَا لَوْ أَوْجَبْنَا مَهْرَ الْمِثْلِ، لَقَوَّمْنَا الْبُضْعَ عَلَى الْأَجَانِبِ، وَأَضْرَرْنَا بِالشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَتَفَاوَتُ مَعَ الْمُسَمَّى، لِتَسَامُحِ النَّاسِ فِيهِ فِي الْعَادَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ.
وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ حَامِدٍ: إنْ كَانَ الشِّقْصُ صَدَاقًا، أَوْ عِوَضًا فِي خَلَعَ، أَوْ مُتْعَةً فِي طَلَاقٍ، أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِمَهْرِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْعُكْلِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الشِّقْصَ بِبَدَلٍ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى قِيمَةِ الْبَدَلِ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِعِوَضٍ، وَاحْتَجُّوا عَلَى أَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ بِأَنَّهُ عَقَارٌ مَمْلُوكٌ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ.
وَلَنَا، أَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِغَيْرِ مَالٍ، أَشْبَهَ الْمَوْهُوبَ وَالْمَوْرُوثَ، وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَخْذُهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ، وَبِالْقِيمَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِوَضَ الشِّقْصِ، فَلَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهَا، كَالْمَوْرُوثِ، فَيَتَعَذَّرُ أَخْذُهُ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِوَضٌ يُمْكِنُ الْأَخْذُ بِهِ، فَأَشْبَهَ الْمَوْهُوبَ وَالْمَوْرُوثَ، وَفَارَقَ الْبَيْعَ، فَإِنَّهُ أَمْكَنَ الْأَخْذُ بِعِوَضِهِ.
فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ. فَطَلَّقَ الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ، بَعْدَ عَفْوِ الشَّفِيعِ، رَجَعَ بِنِصْفِ مَا أَصْدَقَهَا؛ لِأَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute