وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ أَرْضٌ يُعْرَفُ مَالِكُهَا، فَلَمْ تُمْلَكْ بِالْإِحْيَاءِ، كَاَلَّتِي مُلِكَتْ بِشِرَاءٍ أَوْ عَطِيَّةٍ، وَالْخَبَرُ مُقَيَّدٌ بِغَيْرِ الْمَمْلُوكِ، بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً لَيْسَتْ لِأَحَدٍ ". وَقَوْلِهِ: " فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ "
وَهَذَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ مُطْلَقِ حَدِيثِهِ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَلَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ» : الْعِرْقُ الظَّالِمُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ لِغَيْرِهِ، فَيَغْرِسَ فِيهَا. ذَكَرَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، فِي " سُنَنِهِ ". ثُمَّ الْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِمَا مُلِكَ بِشِرَاءٍ أَوْ عَطِيَّةٍ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ. وَلِأَنَّ سَائِرَ الْأَمْوَالِ لَا يَزُولُ الْمِلْكُ عَنْهَا بِالتَّرْكِ، بِدَلِيلِ سَائِرِ الْأَمْلَاكِ إذَا تُرِكَتْ حَتَّى تَشَعَّثَتْ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْمَوَاتِ إذَا أَحْيَاهُ إنْسَانٌ ثُمَّ بَاعَهُ، فَتَرَكَهُ الْمُشْتَرِي حَتَّى عَادَ مَوَاتًا، وَبِاللُّقَطَةِ إذَا مَلَكَهَا ثُمَّ ضَاعَتْ مِنْهُ، وَيُخَالِفُ مَاءَ النَّهْرِ، فَإِنَّهُ اُسْتُهْلِكَ.
النَّوْعُ الثَّانِي مَا يُوجَدُ فِيهِ آثَارُ مِلْكٍ قَدِيمٍ جَاهِلِيٍّ، كَآثَارِ الرُّومِ، وَمَسَاكِنِ ثَمُودَ، وَنَحْوِهَا، فَهَذَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ
لِأَنَّ ذَلِكَ الْمِلْكَ لَا حُرْمَةَ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَادِيُّ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هُوَ بَعْدُ لَكُمْ» . رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، فِي " سُنَنِهِ "، وَأَبُو عُبَيْدٍ، فِي " الْأَمْوَالِ ". وَقَالَ: عَادِيُّ الْأَرْضِ: الَّتِي كَانَ بِهَا سَاكِنٌ فِي آبَادِ الدَّهْرِ، فَانْقَرَضُوا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَنِيسٌ، وَإِنَّمَا نَسَبَهَا إلَى عَادٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ تَقَدُّمِهِمْ ذَوِي قُوَّةٍ وَبَطْشٍ وَآثَارٍ كَثِيرَةٍ، فَنُسِبَ كُلُّ أَثَرٍ قَدِيمٍ إلَيْهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ أَثَرُ الْمِلْكِ، وَلَمْ يُعْلَمْ زَوَالُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَنَّهُ لَا يُمْلَكْ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوهُ عَامِرًا، فَاسْتَحَقُّوهُ، فَصَارَ مَوْقُوفًا بِوَقْفِ عُمَرَ لَهُ، فَلَمْ يُمْلَكْ، كَمَا لَوْ عُلِمَ مَالِكُهُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ، مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمِلْكُ فِي الْإِسْلَامِ لِمُسْلِمٍ، أَوْ ذِمِّيٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهَا لَا تُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، نَقَلَهَا عَنْهُ أَبُو دَاوُد، وَأَبُو الْحَارِثِ، وَيُوسُفُ بْنُ مُوسَى؛ لِمَا رَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا، فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ، فَهِيَ لَهُ» . فَقَيَّدَهُ بِكَوْنِهِ فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ. وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ لَهَا مَالِكٌ، فَلَمْ يَجُزْ إحْيَاؤُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا، فَإِنَّ مَالِكَهَا إنْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ فَهِيَ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ، وَرِثَهَا الْمُسْلِمُونَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهَا تُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ.
نَقَلَهَا صَالِحٌ وَغَيْرُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّهَا أَرْضٌ مَوَاتٌ، لَا حَقَّ فِيهَا لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، أَشْبَهَتْ مَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكُ مَالِكٍ، وَلِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ كَلُقَطَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْكُفْرِ، فَهِيَ كَالرِّكَازِ.
(٤٣٣٢) فَصْلٌ: وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّ عَامِرَ دَارِ الْحَرْبِ إنَّمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute