وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ هَذِهِ الْمَرَافِقَ لَا يَمْلِكُهَا الْمُحْيِي بِالْإِحْيَاءِ، لَكِنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَمْلِكُ بِذَلِكَ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ فِي حَرِيمِ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّهُ مَكَانٌ اسْتَحَقَّهُ بِالْإِحْيَاءِ، فَمَلَكَهُ، كَالْمُحْيِي، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْمِلْكِ مَوْجُودٌ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَدْخُلُ مَعَ الدَّارِ فِي الْبَيْعِ، وَيَخْتَصُّ بِهِ صَاحِبُهَا. فَأَمَّا مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَصَالِحِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الصَّقْرِ، فِي رَجُلَيْنِ أَحْيِيَا قِطْعَتَيْنِ مِنْ مَوَاتٍ، وَبَقِيَتْ بَيْنَهُمَا رُقْعَةٌ، فَجَاءَ رَجُلٌ لِيُحْيِيَهَا، فَلَيْسَ لَهُمَا مَنْعُهُ
وَقَالَ فِي جَبَّانَةٍ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ: مَنْ أَحْيَاهَا، فَهِيَ لَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» «. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ الْعَقِيقَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ بَيْنَ عِمَارَةِ الْمَدِينَةِ» . وَلِأَنَّهُ مَوَاتٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَامِرِ، فَجَازَ إحْيَاؤُهُ، كَالْبَعِيدِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَاللَّيْثُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَظِنَّةِ تَعَلُّقِ الْمَصْلَحَةِ بِهِ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى فَتْحِ بَابٍ فِي حَائِطِهِ إلَى فِنَائِهِ، وَيَجْعَلَهُ طَرِيقًا، أَوْ يَخْرُبَ حَائِطُهُ، فَيَضَعَ آلَاتِ الْبِنَاءِ فِي فِنَائِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْبَعِيدِ
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا حَدَّ يَفْصِلُ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ سِوَى الْعُرْفِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدُّهُ غَلْوَةٌ، وَهِيَ خُمْسُ الْفَرْسَخِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَدُّ الْبَعِيدِ هُوَ الَّذِي إذَا وَقَفَ الرَّجُلُ فِي أَدْنَاهُ، فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ، لَمْ يَسْمَعْ أَدْنَى أَهْلِ الْمِصْرِ إلَيْهِ. وَلَنَا، أَنَّ التَّحْدِيدَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ، وَلَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ، وَلَمْ يَرِدْ مِنْ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ تَحْدِيدٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ، كَالْقَبْضِ وَالْإِحْرَازِ. وَقَوْلُ مَنْ حَدَّدَ هَذَا تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَحْدِيدِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ، كَمِيلٍ وَنِصْفِ مِيلٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا التَّحْدِيدُ الَّذِي ذَكَرَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُخْتَصٌّ بِمَا قَرُبَ مِنْ الْمِصْرِ أَوْ الْقَرْيَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَدًّا لِكُلِّ مَا قَرُبَ مِنْ عَامِرٍ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنَّ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا فِي مَوَاتٍ، حَرُمَ إحْيَاءُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَوَاتِ عَلَى غَيْرِهِ، مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِّ.
(٤٣٣٥) فَصْلٌ: وَجَمِيعُ الْبِلَادِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ سَوَاءٌ، الْمَفْتُوحُ عَنْوَةً كَأَرْضِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَمَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ كَالْمَدِينَةِ، وَمَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لِلْمُسْلِمِينَ كَأَرْضِ خَيْبَرَ، إلَّا الَّذِي صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَلَنَا الْخَرَاجُ عَنْهَا، فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: لَوْ دَخَلَ فِيهَا مُسْلِمٌ، فَأَحْيَا فِيهَا مَوَاتًا، لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّهُمْ صُولِحُوا فِي بِلَادِهِمْ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute