أَهْلُ الْأَرْضِ الشَّارِبَةِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ مَنْ فِي أَوَّلِ النَّهْرِ، فَيَسْقِي وَيَحْبِسُ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى الْكَعْبِ، ثُمَّ يُرْسِلُ إلَى الَّذِي يَلِيهِ فَيَصْنَعُ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْأَرَاضِي كُلُّهَا
فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ الْأَوَّلِ شَيْءٌ، أَوْ عَنْ الثَّانِي، أَوْ عَمَّنْ يَلِيهِمْ فَلَا شَيْءَ لِلْبَاقِينَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إلَّا مَا فَضَلَ، فَهُمْ كَالْعُصْبَةِ فِي الْمِيرَاثِ. وَهَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّه بْن الزُّبَيْرِ، «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجِ الْحُرَّةِ، الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا، إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إلَى جَارِك. فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: يَا زُبَيْرُ اسْقِ، ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْجَدْرِ. قَالَ الزُّبَيْرُ: فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: ٦٥] » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ، فِي " مُوَطَّئِهِ " عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْن الزُّبَيْرِ.
وَذَكَرَ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: نَظَرْنَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى الْجَدْرِ» . فَكَانَ ذَلِكَ إلَى الْكَعْبَيْنِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:
الشِّرَاجُ: جَمْعُ شَرْجٍ، وَالشَّرْجُ: نَهْرٌ صَغِيرٌ، وَالْحَرَّةُ: أَرْضٌ مُلْتَبِسَةٌ بِحِجَارَةٍ سُودٍ، وَالْجَدْرُ: الْجِدَارُ، وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزُّبَيْرَ أَنْ يَسْقِيَ ثُمَّ يُرْسِلَ الْمَاءَ، تَسْهِيلًا عَلَى غَيْرِهِ، فَلَمَّا قَالَ الْأَنْصَارِيُّ مَا قَالَ، اسْتَوْعَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزُّبَيْرَ حَقَّهُ. وَرَوَى مَالِكٌ، فِي " الْمُوَطَّأِ " أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْن أَبِي بَكْرِ بْن حَزْمٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي سَيْلِ مَهْزُورٍ وَمُذَيْنِيبٍ: يُمْسِكُ حَتَّى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُرْسِلُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا حَدِيثٌ مَدَنِيٌّ، مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَهُمْ.
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ: مَهْزُورٌ وَمُذَيْنِيبٌ: وَادِيَانِ مِنْ أَوْدِيَةِ الْمَدِينَةِ، يَسِيلَانِ بِالْمَطَرِ، وَتَتَنَافَسُ أَهْلُ الْحَوَائِطِ فِي سَيْلِهِمَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute