إحْيَاءً، أَشْبَهَ مَا لَوْ جَعَلَهَا حَظِيرَةً لِلْغَنَمِ. وَيُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْقَصْدَ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَرَادَهَا حَظِيرَةً لِلْغَنَمِ، فَبَنَاهَا بِجِصٍّ وَآجُرٍّ، وَقَسَمَهَا بُيُوتًا، فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا، وَهَذَا لَا يُصْنَعُ لِلْغَنَمِ مِثْلُهُ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ مَنِيعًا يَمْنَعُ مَا وَرَاءَهُ، وَيَكُونَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ
وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ، فَلَوْ كَانَ مِمَّا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِالْحِجَارَةِ وَحْدَهَا، كَأَهْلِ حَوْرَانَ وَفِلَسْطِينَ، أَوْ بِالطِّينِ، كَالْفَطَائِرِ لِأَهْلِ غُوطَةِ دِمَشْقَ، أَوْ بِالْخَشَبِ أَوْ بِالْقَصَبِ، كَأَهْلِ الْغَوْرِ، كَانَ ذَلِكَ إحْيَاءً. وَإِنْ بَنَاهُ بِأَرْفَعَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ، كَانَ أَوْلَى. وَقَالَ الْقَاضِي: فِي صِفَةِ الْإِحْيَاءِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا مَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِيَةُ الْإِحْيَاءُ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ إحْيَاءً؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَعْلِيقِ الْمِلْكِ عَلَى الْإِحْيَاءِ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ، وَلَا ذَكَرَ كَيْفِيَّتَهُ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى مَا كَانَ إحْيَاءً فِي الْعُرْفِ.
كَمَا أَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ وَالْحِرْزِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهُ، كَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، وَلِأَنَّ الشَّارِعَ لَوْ عَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَى مُسَمًّى بِاسْمِ، لَتَعَلَّقَ بِمُسَمَّاهُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ، فَكَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْمُسَمَّى إحْيَاءً عِنْدَ أَهْلِ الْعُرْفِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُعَلِّقُ حُكْمًا عَلَى مَا لَيْسَ إلَى مَعْرِفَتِهِ طَرِيقٌ، فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْهُ، تَعَيَّنَ الْعُرْفُ طَرِيقًا لِمَعْرِفَتِهِ، إذْ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ سِوَاهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْأَرْضَ تُحْيِي دَارًا لِلسُّكْنَى، وَحَظِيرَةً، وَمَزْرَعَةً، فَإِحْيَاءُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ ذَلِكَ بِتَهْيِئَتِهَا لِلِانْتِفَاعِ الَّذِي أُرِيدَتْ لَهُ، فَأَمَّا الدَّارُ، فَبِأَنْ يَبْنِيَ حِيطَانَهَا بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَيَسْقُفَهَا، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلسُّكْنَى إلَّا بِذَلِكَ
وَأَمَّا الْحَظِيرَةُ فَإِحْيَاؤُهَا بِحَائِطٍ جَرَتْ بِهِ عَادَةُ مِثْلِهَا، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا التَّسْقِيفُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَسْقِيفٍ؛ وَسَوَاءٌ أَرَادَهَا حَظِيرَةً لِلْمَاشِيَةِ، أَوْ لِلْخَشَبِ، أَوْ لِلْحَطَبِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَلَوْ خَنْدَقَ عَلَيْهَا خَنْدَقًا، لَمْ يَكُنْ إحْيَاءً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَائِطٍ وَلَا عِمَارَةٍ، إنَّمَا هُوَ حَفْرٌ وَتَخْرِيبٌ. وَإِنْ خَاطَهَا بِشَوْكٍ وَشِبْهِهِ، لَمْ يَكُنْ إحْيَاءً، وَكَانَ تَحَجُّرًا؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ قَدْ يَنْزِلُ مَنْزِلًا، وَيُحَوِّطُ عَلَى رَحْلِهِ بِنَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ
وَلَوْ نَزَلَ مَنْزِلًا، فَنَصَبَ بِهِ بَيْتَ شَعْرٍ أَوْ خَيْمَةً، لَمْ يَكُنْ إحْيَاءً. وَإِنْ أَرَادَهَا لِلزِّرَاعَةِ، فَبِأَنْ يُهَيِّئَهَا لِإِمْكَانِ الزَّرْعِ فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ لَا تُزْرَعُ إلَّا بِالْمَاءِ، فَبِأَنْ يَسُوقَ إلَيْهَا مَاءً مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُمْكِنُ زَرْعُهَا لِكَثْرَةِ أَحْجَارِهَا، كَأَرْضِ الْحِجَازِ، فَبِأَنْ يَقْلَعَ أَحْجَارَهَا وَيُنَقِّيَهَا حَتَّى تَصْلُحَ لِلزَّرْعِ، وَإِنْ كَانَتْ غِيَاضًا وَأَشْجَارًا، كَأَرْضِ الشِّعْرَى، فَبِأَنْ يَقْلَعَ أَشْجَارَهَا، وَيُزِيلَ عُرُوقَهَا الَّتِي تَمْنَعُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute