الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى: نَوْعَانِ مِنْ الْهِبَةِ، يَفْتَقِرَانِ إلَى مَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ سَائِرُ الْهِبَاتِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ عِنْدَ مِنْ اعْتَبَرَهُ. وَصُورَةُ الْعُمْرَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: أَعْمَرْتُك دَارِي هَذِهِ، أَوْ هِيَ لَك عُمُرِي، أَوْ مَا عَاشَتْ، أَوْ مُدَّةَ حَيَاتِك، أَوْ مَا حَيِيت، أَوْ نَحْوَ هَذَا. سُمِّيَتْ عُمْرَى لِتَقْيِيدِهَا بِالْعُمُرِ.
وَالرُّقْبَى أَنْ يَقُولَ: أَرْقَبْتُك هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ هِيَ لَك حَيَاتَك، عَلَى أَنَّك إنْ مِتَّ قَبْلِي عَادَتْ إلَيَّ، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَك فَهِيَ لَك وَلِعَقِبِك. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هِيَ لِآخِرِنَا مَوْتًا. وَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ رُقْبَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ. وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَعْمُرُوا وَلَا تَرْقُبُوا» . وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا، وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
فَأَمَّا النَّهْيُ، فَإِنَّمَا وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْلَامِ لَهُمْ إنَّكُمْ إنْ أَعَمَرْتُمْ أَوْ أَرْقَبْتُمْ يَعُدْ لِلْمُعْمِرِ وَالْمُرْقِبِ، وَلَمْ يَعُدْ إلَيْكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: «فَمَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى، فَهِيَ لِمَنْ أَعْمَرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا وَعَقِبِهِ» . وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ حَقِيقَةُ النَّهْيِ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّتَهَا؛ فَإِنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَمْنَعُ صِحَّةَ مَا يُفِيدُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَائِدَةً، أَمَّا إذَا كَانَ صِحَّةُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ضَرَرًا عَلَى مُرْتَكِبَهُ، لَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهُ، كَالطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ.
وَصِحَّةُ الْعُمْرَى ضَرَرٌ عَلَى الْمُعْمِرِ، فَإِنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ بِغَيْرِ عِوَضٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْعُمْرَى تَنْقُلُ الْمِلْكَ إلَى الْمُعْمَرِ. وَبِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَاوُسٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ:
الْعُمْرَى تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ، لَا تُمْلَكُ بِهَا رَقَبَةُ الْمُعْمَرِ بِحَالٍ، وَيَكُونُ لِلْمُعْمَرِ السُّكْنَى، فَإِذَا مَاتَ عَادَتْ إلَى الْمُعْمِرِ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ وَلِعَقِبِهِ. كَانَ سُكْنَاهَا لَهُمْ، فَإِذَا انْقَرَضُوا عَادَتْ إلَى الْمُعْمِرِ. وَاحْتَجَّا بِمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: سَمِعْت مَكْحُولًا يَسْأَلُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ الْعُمْرَى، مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهَا؟ فَقَالَ الْقَاسِمُ: مَا أَدْرَكْت النَّاسَ إلَّا عَلَى شُرُوطِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَمَا أَعْطَوْا. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ، عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: لَمْ يَخْتَلِفْ الْعَرَبُ فِي الْعُمْرَى، وَالرُّقْبَى، وَالْإِفْقَارِ، وَالْإِخْبَالِ، وَالْمِنْحَةِ، وَالْعَرِيَّةِ.
وَالْعَارِيَّةِ، وَالسُّكْنَى، وَالْإِطْرَاقِ، أَنَّهَا عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute