الْقِسَمُ الْأَوَّلُ الْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ الْعَقْدِ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: الْعَقْدُ بَاطِلٌ. وَلَنَا، عُمُومُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: ٢٧٥] . وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، فَصَحَّ، كَغَيْرِ الْمَرِيضِ. فَلَوْ بَاعَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ بِعَشَرَةٍ، فَقَدْ حَابَى الْمُشْتَرِيَ بِثُلُثَيْ مَالِهِ، وَلَيْسَ لَهُ الْمُحَابَاةُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ لَزِمَ الْبَيْعُ.
وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي فَسْخَ الْبَيْعِ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَبَعَّضَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ اخْتَارَ إمْضَاءَ الْبَيْعِ، فَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَأْخُذُ نِصْفَ الْمَبِيعِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي. وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ يَأْخُذُ ثُلُثَيْ الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْقَاضِي فِي نَحْوِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ، الثُّلُثَ بِالْمُحَابَاةِ، وَالثُّلُثَ الْآخَرَ بِالثَّمَنِ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: يُقَال لَهُ: إنْ شِئْت أَدَّيْت عَشَرَةً أُخْرَى وَأَخَذْت الْمَبِيعَ، وَإِنْ شِئْت فَسَخْت وَلَا شَيْءَ لَك
وَعِنْدَ مَالِكٍ: لَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَيَأْخُذَ ثُلُثَ الْمَبِيعِ بِالْمُحَابَاةِ، وَيُسَمِّيَهُ أَصْحَابُهُ خَلْعَ الثُّلُثِ. وَلَنَا أَنَّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مُقَابَلَةَ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ أَخْذِ جَمْعَيْهِ بِجَمِيعِهِ، فَصَحَّ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى سِلْعَتَيْنِ بِثَمَنٍ، فَانْفَسَخَ الْبَيْعُ فِي إحْدَاهُمَا لِعَيْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ كَمَا لَوْ اشْتَرَى شِقْصًا وَسَيْفًا، فَأَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ، أَوْ كَالشُّفَعَاءِ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءًا مِنْ الْمَبِيعِ بِقِسْطِهِ، أَوْ كَمَا لَوْ اشْتَرَى قَفِيزًا يُسَاوِي ثَلَاثِينَ، بِقَفِيزٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ
وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ الْمَبِيعَ بِثَمَنٍ، فَيَأْخُذُ بَعْضَهُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ، فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا بِمِائَةٍ. فَقَالَ: قَبِلْت نِصْفَهُ بِهَا. وَلِأَنَّهُ إذَا فَسَخَ الْبَيْعَ فِي بَعْضِهِ، وَجَبَ أَنْ يَفْسَخَهُ فِي قَدْرِهِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَلَا يَجُوزُ فَسْخُ الْبَيْعِ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ ثَمَنِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ فَسْخُ الْبَيْعِ فِي الْجَمِيعِ مَعَ بَقَاءِ ثَمَنِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَإِنَّ فِيهِ إجْبَارَ الْوَرَثَةِ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي عَاوَضَ مُوَرِّثُهُمْ، وَإِذَا فَسَخَ الْبَيْعَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا حَصَلَتْ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ.
فَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ زَالَتْ الْوَصِيَّةُ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِمِائَةٍ، وَأَجْرُ مِثْلِهِ خَمْسُونَ، فَطَلَبَ الْخَمْسِينَ الْفَاضِلَةَ بِدُونِ الْحَجِّ. وَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي عَشَرَةً بِثَلَاثِينَ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ نِصْفَهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ. وَإِنْ بَاعَ الْعَبْدَ الَّذِي يُسَاوِي ثَلَاثِينَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، جَازَ وَالْبَيْعُ فِي ثُلُثَيْهِ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ. وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، لِلْمُشْتَرِي خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ بِكُلِّ الثَّمَنِ، وَطَرِيقُ هَذَا أَنْ تَنْسُبَ الثَّمَنَ وَثُلُثَ الْمَبِيعِ إلَى قِيمَتِهِ، فَيَصِحَّ الْبَيْعُ فِي مِقْدَارِ تِلْكَ النِّسْبَةِ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ
وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يَسْقُطُ الثَّمَنُ مِنْ قِيمَةِ الْمَبِيعِ، وَيُنْسَبُ الثُّلُثُ إلَى الْبَاقِي، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ تِلْكَ النِّسْبَةِ، وَهُوَ ثُلُثَاهُ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ. فَإِنْ خَلَّفَ الْبَائِعُ عَشَرَةً أُخْرَى، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute