للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَوَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكِبَ إلَى قُبَاءَ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ أَنْ لَا مِيرَاثَ لَهُمَا.» رَوَاهُ سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ "؛

لِأَنَّ الْعَمَّةَ، وَابْنَةَ الْأَخِ لَا تَرِثَانِ مَعَ أَخَوَيْهِمَا، فَلَا تَرِثَانِ مُنْفَرِدَتَيْنِ، كَالْأَجْنَبِيَّاتِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ انْضِمَامَ الْأَخِ إلَيْهِمَا يُؤَكِّدُهُمَا وَيُقَوِّيهُمَا، بِدَلِيلِ أَنَّ بَنَاتِ الِابْنِ، وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ، يَعْصِبُهُنَّ أَخُوهُنَّ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ مِيرَاثِ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ، وَلَا يَرِثْنَ مُنْفَرِدَاتٍ، فَإِذَا لَمْ يَرِثْ هَاتَانِ مَعَ أَخِيهِمَا، فَمَعَ عَدَمِهِ أَوْلَى. وَلِأَنَّ الْمَوَارِيثَ إنَّمَا تَثْبُتُ نَصًّا، وَلَا نَصَّ فِي هَؤُلَاءِ.

وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: ٧٥] . أَيْ أَحَقُّ بِالتَّوَارُثِ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: كَانَ التَّوَارُثُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ بِالْحَلِفِ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: دَمِي دَمُك، وَمَالِي مَالُكَ، تَنْصُرُنِي وَأَنْصُرُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُك. فَيَتَعَاقَدَانِ الْحَلِفَ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، فَيَتَوَارَثَانِ بِهِ دُونَ الْقَرَابَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: ٣٣] .

ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، وَصَارَ التَّوَارُثُ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَمْ يُهَاجِرْ، وَرِثَهُ الْمُهَاجِرُونَ دُونَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: ٧٢] . ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: ٧٥] . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّ رَجُلًا رَمَى رَجُلًا بِسَهْمٍ، فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَتْرُكْ إلَّا خَالًا، فَكَتَبَ فِيهِ أَبُو عُبَيْدَةَ إلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ؛ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَرَوَى الْمِقْدَادُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، يَعْقِلُ عَنْهُ، وَيَرِثُهُ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ: «مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ، يَعْقِلُ عَنْهُ، وَيَفُكُّ عَانِيَهُ» . فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ إلَّا خَالٌ فَلَا وَرَاثَ لَهُ، كَمَا يُقَالُ: الْجُوعُ زَادُ مَنْ لَا زَادَ لَهُ، وَالْمَاءُ طِيبُ مَنْ لَا طِيبَ لَهُ، وَالصَّبْرُ حِيلَةُ مَنْ لَا حِيلَةَ لَهُ.

أَوْ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْخَالِ السُّلْطَانَ. قُلْنَا: هَذَا فَاسِدٌ؛ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّهُ قَالَ: " يَرِثُ مَالَهُ "، وَفِي لَفْظٍ قَالَ: " يَرِثُهُ ". وَالثَّانِي، أَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا ذَلِكَ، فَكَتَبَ عُمَرُ بِهَذَا جَوَابًا لِأَبِي عُبَيْدَةَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ مِيرَاثِ الْخَالِ، وَهُمْ أَحَقُّ بِالْفَهْمِ وَالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِمْ. الثَّالِثُ، أَنَّهُ سَمَّاهُ وَارِثًا، وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ هَذَا يُسْتَعْمَلُ لِلنَّفْيِ. قُلْنَا: وَالْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِهِمْ: يَا عِمَادَ مَنْ لَا عِمَادَ لَهُ. يَا سَنَدَ مَنْ لَا سَنَدَ لَهُ. يَا ذُخْرَ مَنْ لَا ذُخْرَ لَهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>