وَإِنْ لَمْ يَطَأْ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَزَيْدٍ، وَابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَعُرْوَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهُوَ قَدِيمُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَطَاوُسٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِالْوَطْءِ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ وَرَوَى عَنْهُ يَعْقُوبُ بْنِ بُخْتَانَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ، أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا، لَمْ يُكْمِلْ لَهَا الصَّدَاقَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: ٢٣٧] وَهَذِهِ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: ٢١] وَالْإِفْضَاءُ: الْجِمَاعُ. وَلِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ لَمْ تُمَسَّ، أَشْبَهَتْ مَنْ لَمْ يَخْلُ بِهَا.
وَلَنَا: إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِمَا، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، قَالَ: قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ، أَنَّ مَنْ أَغْلَقَ بَابًا، أَوْ أَرْخَى سِتْرًا، فَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ، وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ. وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ أَيْضًا، عَنْ الْأَحْنَفِ، عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا. وَهَذِهِ قَضَايَا تَشْتَهِرُ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ أَحَدٌ فِي عَصْرِهِمْ، فَكَانَ إجْمَاعًا.
وَمَا رَوَوْهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَا يَصِحُّ، قَالَ أَحْمَدُ: يَرْوِيهِ لَيْثٌ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَدْ رَوَاهُ حَنْظَلَةُ خِلَافَ مَا رَوَاهُ لَيْثٌ، وَحَنْظَلَةُ أَقْوَى مِنْ لَيْثٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مُنْقَطِعٌ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُسْتَحَقَّ وُجِدَ مِنْ جِهَتِهَا، فَيَسْتَقِرُّ بِهِ الْبَدَلُ، كَمَا لَوْ وَطِئَهَا، أَوْ كَمَا لَوْ أَجَّرَتْ دَارَهَا، أَوْ بَاعَتْهَا وَسَلَّمَتْهَا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: ٢٣٧] فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَنَّى بِالْمُسَبَّبِ عَنْ السَّبَبِ، الَّذِي هُوَ الْخَلْوَةُ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: ٢١] فَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْفَرَّاءِ، أَنَّهُ قَالَ: الْإِفْضَاءُ الْخَلْوَةُ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ الْإِفْضَاءَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْفَضَاءِ، وَهُوَ الْخَالِي، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَقَدْ خَلَا بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ. وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ: حُكْمُهَا حُكْمُ الدُّخُولِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمَا. يَعْنِي فِي حُكْمِ مَا لَوْ وَطِئَهَا، مِنْ تَكْمِيلِ الْمَهْرِ، وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَتَحْرِيمِ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا إذَا طَلَّقَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَثُبُوتِ الرَّجْعَةِ لَهُ عَلَيْهَا فِي عِدَّتِهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا، إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute