أَعْطَاهُمْ الدَّقِيقَ بِالْوَزْنِ، جَازَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَالِ الْكَمَالِ، لِأَجْلِ مَا يَفُوتُ بِهِ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَالْهَرِيسَةِ.
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: ٨٩] . وَالدَّقِيقُ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُهُ أَهْلَهُ، وَلِأَنَّ الدَّقِيقَ أَجْزَاءُ الْحِنْطَةِ، وَقَدْ كَفَاهُمْ مُؤْنَتَهُ وَطَحْنَهُ، وَهَيَّأَهُ وَقَرَّبَهُ مِنْ الْأَكْلِ، وَفَارَقَ الْهَرِيسَةَ، فَإِنَّهَا تَتْلَفُ عَلَى قُرْبٍ، وَلَا يُمْكِنْ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ الْأَكْلِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَعَنْ أَحْمَدَ فِي إخْرَاجِ الْخُبْزِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، يُجْزِئُ. اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، فَإِنَّهُ قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ أَخَذَ ثَلَاثَةَ عَشْرَ رِطْلًا وَثُلُثًا دَقِيقًا، وَهُوَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَخَبَزَهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَقَسَمَ الْخُبْزَ عَلَى عَشْرَةِ مَسَاكِينَ، أَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ؟ قَالَ ذَلِكَ أَعْجَبُ إلَيَّ، وَهُوَ الَّذِي جَاءَ فِيهِ الْحَدِيثُ أَنْ يُطْعِمَهُمْ مُدَّ بُرٍّ، وَهَذَا إنْ فَعَلَ فَأَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ. قُلْت: إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: ٨٩] . فَهَذَا قَدْ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، وَأَوْفَاهُمْ الْمُدَّ. قَالَ: أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ، فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَنَّ أَحْمَدَ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ الْكَفَّارَةِ، قَالَ: أَطْعِمْهُمْ خُبْزًا وَتَمْرًا؟ قَالَ: لَيْسَ فِيهِ تَمْرٌ. قَالَ: فَخُبْزٌ؟ . قَالَ: لَا، وَلَكِنْ بُرًّا أَوْ دَقِيقًا بِالْوَزْنِ، رِطْلٌ وَثُلُثٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَالَةِ الْكَمَالِ وَالِادِّخَارِ فَأَشْبَهَ الْهَرِيسَةَ. وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: ٨٩] . وَهَذَا مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ، وَلَيْسَ الِادِّخَارُ مَقْصُودًا فِي الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمَا يَقُوتُ الْمِسْكِينَ فِي يَوْمِهِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ كِفَايَتُهُ فِي يَوْمِهِ، وَهَذَا قَدْ هَيَّأَهُ لِلْأَكْلِ الْمُعْتَادِ لِلِاقْتِيَاتِ، وَكَفَاهُمْ مُؤْنَتَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَقَّى الْحِنْطَةَ وَغَسَلَهَا.
وَأَمَّا الْهَرِيسَةُ وَالْكُبُولُ وَنَحْوُهُمَا، فَلَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُمَا خَرَجَا عَنْ الِاقْتِيَاتِ الْمُعْتَادِ إلَى حَيِّزِ الْإِدَامِ. وَأَمَّا السَّوِيقُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ؛ لِذَلِكَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَاتُ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ، وَلَا يُجْزِئُهُ مِنْ الْخُبْزِ وَالسَّوِيقِ أَقَلُّ مِنْ شَيْءٍ يُعْمَلُ مِنْ مُدٍّ، فَإِنْ أَخَذَ مُدَّ حِنْطَةٍ، أَوْ رِطْلًا وَثُلُثًا مِنْ الدَّقِيقِ، وَصَنَعَهُ خُبْزًا، أَجْزَأَهُ. وَقَالَ الْخِرَقِيِّ: يُجْزِئُهُ رِطْلَانِ. قَالَ الْقَاضِي: الْمُدُّ يَجِيءُ مِنْهُ رِطْلَانِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ رِطْلَيْنِ مِنْ الْخُبْزِ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ مُدٍّ، وَذَلِكَ بِالرِّطْلِ الدِّمَشْقِيِّ خَمْسُ أَوَاقٍ وَأَقَلُّ مِنْ خُمْسِ أُوقِيَّةٍ، وَهَذَا فِي الْبُرِّ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُخْرَجُ مِنْ الشَّعِيرِ، فَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا ضِعْفُ ذَلِكَ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute