مَا تَزَوَّجَ، فَلَيْسَ بِشَيْءِ. وَلَعَلَّهمْ يَحْتَجُّونَ بِأَنَّهَا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ظَاهَرَ مِنْ الْآخَرِ، فَكَانَ مُظَاهِرًا كَالرَّجُلِ.
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: ٣] . فَخَصَّهُمْ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ يُوجِبُ تَحْرِيمًا فِي الزَّوْجَةِ، يَمْلِكُ الزَّوْجُ رَفْعَهُ، فَاخْتَصَّ بِهِ الرَّجُلُ، كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ الْحِلَّ فِي الْمَرْأَةِ حَقٌّ لِلرَّجُلِ، فَلَمْ تَمْلِكْ الْمَرْأَةُ إزَالَتَهُ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْكَفَّارَةِ، فَنَقَلَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ: عَلَيْهَا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ. لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ، أَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ قَالَتْ: إنْ تَزَوَّجْت مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَهُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي. فَسَأَلَتْ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَرَأَوْا أَنَّ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةَ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ، أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيّ، فَجَاءَ رَجُلٌ حَتَّى جَلَسَ إلَيْنَا، فَسَأَلْتُهُ مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا مَوْلًى لِعَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، الَّتِي أَعْتَقَتْنِي عَنْ ظِهَارِهَا، خَطَبَهَا مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَتْ: هُوَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي إنْ تَزَوَّجْتُهُ. ثُمَّ رَغِبَتْ فِيهِ بَعْدُ، فَاسْتَفْتَتْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ يَوْمئِذٍ كَثِيرٌ، فَأَمَرُوهَا أَنْ تَعْتِقَ رَقَبَةً وَتَتَزَوَّجَهُ، فَأَعْتَقَتْنِي وَتَزَوَّجَتْهُ.
وَرَوَى سَعِيدٌ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ مُخْتَصَرَيْنِ، وَلِأَنَّهَا زَوْجٌ أَتَى بِالْمُنْكَرِ مِنْ الْقَوْلِ وَالزُّورِ، فَلَزِمَهُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ كَالْآخَرِ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَاسْتَوَى فِيهَا الزَّوْجَانِ، كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَيْسَ عَلَيْهَا كَفَّارَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُنْكَرٌ وَزُورٌ، وَلَيْسَ بِظِهَارٍ، فَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً، كَالسَّبِّ وَالْقَذْفِ. وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ لَيس بِظِهَارٍ، فَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ، كَسَائِرِ الْأَقْوَالِ، أَوْ تَحْرِيمٌ مِمَّا لَا يَصِحُّ مِنْهُ الظِّهَارُ، فَأَشْبَهَ الظِّهَارَ مِنْ أَمَتِهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: عَلَيْهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ. قَالَ أَحْمَدُ: قَدْ ذَهَبَ عَطَاءٌ مَذْهَبًا حَسَنًا، جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِثْلَ الطَّعَامِ وَمَا أَشْبَهَ.
وَهَذَا أَقْيَسُ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَأَشْبَهُ بِأُصُولِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ، وَمُجَرَّدُ الْقَوْلِ مِنْ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ لَا يُوجِبُ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ، بِدَلِيلِ سَائِرِ الْكَذِبِ، وَالظِّهَارِ قَبْلَ الْعَوْدِ، وَالظِّهَارِ مِنْ أَمَتِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ، وَلِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ لَا يُثْبِتُ التَّحْرِيمَ فِي الْمَحَلِّ، فَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ، كَتَحْرِيمِ سَائِرِ الْحَلَالِ. وَلِأَنَّهُ ظِهَارٌ مِنْ غَيْرِ امْرَأَتِهِ، فَأَشْبَهَ الظِّهَارَ مِنْ أَمَتِهِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، فِي عِتْقِ الرَّقَبَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إعْتَاقُهَا تَكْفِيرًا لَيَمِينِهَا، فَإِنَّ عِتْقَ الرَّقَبَةِ أَحَدُ خِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا؛ لِكَوْنِ الْمَوْجُودِ مِنْهَا لَيْسَ بِظِهَارٍ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةٍ الْأَثْرَمِ، لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، إنَّمَا قَالَ: الْأَحْوَطُ أَنْ تُكَفِّرَ. وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْأَحْوَطَ التَّكْفِيرُ بِأَغْلَظِ الْكَفَّارَاتِ، لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ، وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَحْرِيمٌ لِلْحَلَالِ مِنْ غَيْرِ ظِهَارٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَرَّمَ أَمَتَهُ، أَوْ طَعَامَهُ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute