وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ، ثُمَّ يَعْزِلُونَهُنَّ، لَا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنَّهُ أَلَمَّ بِهَا، إلَّا أَلْحَقْت بِهِ وَلَدَهَا، فَاعْزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ اُتْرُكُوا.
وَلِأَنَّ الْوَطْءَ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، فَإِذَا كَانَ مَشْرُوعًا صَارَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا، كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ إنَّمَا سُمِّيَتْ فِرَاشًا تَجَوُّزًا، إمَّا لِمُضَاجَعَتِهِ لَهَا عَلَى الْفِرَاشِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهَا تَحْتَهُ فِي حَالِ الْمُجَامَعَةِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ يَحْصُلُ فِي الْجِمَاعِ، وَقِيَاسُهُمْ الْوَطْءَ عَلَى الْمِلْكِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْوَلَدُ بِدُونِ الْوَطْءِ، وَيُفَارِقُ النِّكَاحَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُرَدْ إلَّا لِلْوَطْءِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، وَلَا يَنْعَقِدُ فِي مَحَلٍّ يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِيهِ، كَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَذَوَاتِ مَحَارِمِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ وَلَدِ أَمَتِهِ الَّتِي يَلْحَقهُ وَلَدُهَا، فَطَرِيقُهُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا بَعْدَ وَطْئِهِ لَهَا بِحَيْضَةٍ، فَيَنْتَفِي بِذَلِكَ.
وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا، لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ بِذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ لِي جَارِيَةً، وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ. فَقَالَ: «اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْت، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا. قَالَ: فَلَبِثَ الرَّجُلُ، ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: إنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ حَمَلَتْ. قَالَ: قَدْ أَخْبَرْتُك أَنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْت أَعْزِلُ عَنْ جَارِيَتِي، فَوَلَدَتْ أَحَبَّ الْخَلْقِ إلَيَّ. يَعْنِي ابْنَهُ.
وَلِحَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ مَعَهُ الْإِنْزَالُ، كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يَنْزِلُ مِنْ الْمَاءِ مَا لَا يُحِسُّ بِهِ. وَإِنْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ فِي الدُّبُرِ، لَمْ تَصِرْ بِذَلِكَ فِرَاشًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَلِأَنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ الْوَلَدُ بِدَعْوَى الِاسْتِبْرَاءِ إذَا أَتَتْ بِهِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِمُدَّةِ الْحَمْلِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَصِيرُ فِرَاشًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُجَامِعُ، فَيَسْبِقُ الْمَاءُ إلَى الْفَرْجِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ، وَإِذَا ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ مِنْ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ، قُبِلَ بِغَيْرِ يَمِينٍ، كَالْمَرْأَةِ تَدَّعِي انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا. وَفِي الْآخَرِ، يُسْتَحْلَفُ.
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ". وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، بِخِلَافِ الْعِدَّةِ. وَمَتَى لَمْ يَدَّعِ الِاسْتِبْرَاءَ، لَحِقَهُ وَلَدُهَا، وَلَمْ يَنْتَفِ عَنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ، فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْمَرْأَةِ.
وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: ٦] . فَخَصَّ بِذَلِكَ الْأَزْوَاجَ، وَلِأَنَّهُ وَلَدٌ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجَةِ، فَلَمْ يَمْلِكْ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ، كَمَا لَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً بِشُبْهَةٍ، فَأَلْحَقَتْ الْقَافَةُ وَلَدَهَا بِهِ، وَلِأَنَّ لَهُ طَرِيقًا إلَى نَفْيِ الْوَلَدِ بِغَيْرِ اللِّعَانِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ، فَلَا يُشْرَعُ، وَلِأَنَّهُ إذَا وَطِئَ أَمَتَهُ وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute