مَلْعُونَةٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلُوَ الْمُسْلِمَةَ كَافِرٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا: لَوْ كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ مَانِعًا مِنْ دَوَامِ نِكَاحِهِمَا، لَمَنَعَهُ مِنْ نِكَاحِ غَيْرِهَا، فَإِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ وُقُوعَ اللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ بِأَحَدِهِمَا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَيُفْضِي إلَى عُلُوِّ مَلْعُونٍ لِغَيْرِ مَلْعُونَةٍ، أَوْ إلَى إمْسَاكِهِ لِمَلْعُونَةٍ مَغْضُوبٍ عَلَيْهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ النَّفْرَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ إسَاءَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إنْ كَانَ صَادِقًا، فَقَدْ أَشَاعَ فَاحِشَتَهَا، وَفَضَحَهَا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَأَقَامَهَا مُقَامَ خِزْيٍ، وَحَقَّقَ عَلَيْهَا اللَّعْنَةَ وَالْغَضَبَ، وَقَطَعَ نَسَبَ وَلَدِهَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَقَدْ أَضَافَ إلَى ذَلِكَ بَهْتَهَا وَقَذْفَهَا بِهَذِهِ الْفِرْيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْمَرْأَةُ إنْ كَانَتْ صَادِقَةً، فَقَدْ أَكْذَبَتْهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَأَوْجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً، فَقَدْ أَفْسَدَتْ فِرَاشَهُ، وَخَانَتْهُ فِي نَفْسِهَا، وَأَلْزَمَتْهُ الْعَارَ وَالْفَضِيحَةَ، وَأَحْوَجَتْهُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ الْمُخْزِي، فَحَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفْرَةً مِنْ صَاحِبِهِ، لِمَا حَصَلَ إلَيْهِ مِنْ إسَاءَةٍ لَا يَكَادُ يَلْتَئِمُ لَهُمَا مَعَهَا حَالٌ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّارِعِ انْحِتَامَ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، وَإِزَالَةَ الصُّحْبَةِ الْمُتَمَحِّضَةِ مَفْسَدَةً، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ كَاذِبًا عَلَيْهَا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى إمْسَاكِهَا، مَعَ مَا صَنَعَ مِنْ الْقَبِيحِ إلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهَا، وَلِهَذَا قَالَ الْعَجْلَانِيُّ: كَذَبْت عَلَيْهَا إنْ أَمْسَكْتهَا.
(٦٢٦٢) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِاللِّعَانِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَلَا تَحِلُّ لَهُ، وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يُكْذِبْ نَفْسَهُ لَا تَحِلُّ لَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلًا شَاذًّا، وَأَمَّا إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فَاَلَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ أَيْضًا. وَجَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَنَّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو يُوسُفَ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: إنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، حَلَّتْ لَهُ، وَعَادَ فِرَاشُهُ بِحَالِهِ. وَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ. شَذَّ بِهَا حَنْبَلٌ عَنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهَا غَيْرَهُ.
وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا الْحَاكِمُ، فَأَمَّا مَعَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا، فَلَا وَجْهَ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بِحَالِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَ الْبَتِّيِّ، أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فُرْقَةٌ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فَهُوَ خَاطِبٌ مِنْ الْخُطَّابِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ عِنْدَهُمَا طَلَاقٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، رُدَّتْ إلَيْهِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ. وَلَنَا مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute