للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَتَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ الْفَسْخُ لِتَعَذُّرِ الْوَطْءِ بِالْعُنَّةِ، وَتَعَذُّرِ النَّفَقَةِ بِالْإِعْسَارِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ هَاهُنَا لِتَعَذُّرِ الْجَمِيعِ أَوْلَى، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عُمَرَ فِي الْمَفْقُودِ، مَعَ مُوَافَقَةِ الصَّحَابَةِ لَهُ، وَتَرْكِهِمْ إنْكَارَهُ. وَنَقَلَ أَحْمَدُ بْنُ أَصْرَمَ، عَنْ أَحْمَدَ: إذَا مَضَى عَلَيْهِ تِسْعُونَ سَنَةً، قُسِّمَ مَالُهُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ زَوْجَتَهُ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ.

قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّمَا اعْتَبَرَ تِسْعِينَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وِلَادَتِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْعُمْرِ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ انْقِطَاعُ خَبَرِهِ، وَجَبَ الْحُكْمُ بِمَوْتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فَقْدُهُ بِغِيبَةٍ ظَاهِرُهَا الْهَلَاكُ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ غَيْبَةٌ ظَاهِرُهَا السَّلَامَةُ، فَلَمْ يُحْكَمْ بِمَوْتِهِ، كَمَا قَبْلَ الْأَرْبَعِ سِنِينَ، أَوْ كَمَا قَبْلَ التِّسْعِينَ، وَلِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ، وَالتَّقْدِيرُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَارَ إلَيْهِ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهَا بِتِسْعِينَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وِلَادَتِهِ، يُفْضِي إلَى اخْتِلَافِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ بِاخْتِلَافِ عُمْرِ الزَّوْجِ، وَلَا نَظِيرَ لِهَذَا، وَخَبَرُ عُمَرَ وَرَدَ فِي مَنْ ظَاهِرُ غَيْبَتِهِ الْهَلَاكُ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ تَكُونَ غَيْبَتُهُ ظَاهِرُهَا الْهَلَاكُ، كَاَلَّذِي يُفْقَدُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، أَوْ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَرْجِعُ، أَوْ يَمْضِي إلَى مَكَان قَرِيبٍ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ وَيَرْجِعَ، فَلَا يَظْهَرُ لَهُ خَبَرٌ، أَوْ يُفْقَدُ بَيْنِ الصَّفَّيْنِ، أَوْ يَنْكَسِرُ بِهِمْ مَرْكَبٌ فَيَغْرَقُ بَعْضُ رُفْقَتِهِ، أَوْ يُفْقَدَ فِي مَهْلَكَةٍ، كَبَرِّيَّةِ الْحِجَازِ وَنَحْوِهَا، فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ الظَّاهِرُ عَنْهُ، أَنَّ زَوْجَتَهُ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.

وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ عُمَرَ؟ قَالَ: هُوَ أَحْسَنُهَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ مِنْ ثَمَانِيَةِ وُجُوهٍ. ثُمَّ قَالَ: زَعَمُوا أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ عَنْ هَذَا. هَؤُلَاءِ الْكَذَّابِينَ. قُلْت: فَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ بِخِلَافِ هَذَا؟ قَالَ: لَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ إنْسَانٌ يَكْذِبُ. وَقُلْت لَهُ مَرَّةً: إنَّ إنْسَانًا قَالَ لِي: إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ تَرَكَ قَوْلَهُ فِي الْمَفْقُودِ بَعْدَكَ. فَضَحِكَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَرَكَ هَذَا الْقَوْلَ أَيَّ شَيْءٍ يَقُولُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ. قَالَ أَحْمَدُ: خَمْسَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَاللَّيْثُ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ.

وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَيْسَ فِي انْتِظَارِ مَنْ يُفْقَدُ فِي الْقِتَالِ وَقْتٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ: تَتَرَبَّصُ سَنَةً؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ هَلَاكِهِ هَاهُنَا أَكْثَرُ مِنْ غَلَبَةِ غَيْرِهِ، لِوُجُودِ سَبَبِهِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْت أَقُولُ: إذَا تَرَبَّصَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>