وَالْخَشَبِ، فَهَذَا كُلُّهُ إذَا جَرَحَ بِهِ جُرْحًا كَبِيرًا، فَمَاتَ، فَهُوَ قَتْلٌ عَمْدٌ، لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فِيمَا عَلِمْنَاهُ.
فَأَمَّا إنْ جَرَحَهُ جُرْحًا صَغِيرًا، كَشَرْطَةِ الْحَجَّامِ، أَوْ غَرَزَهُ بِإِبْرَةِ، أَوْ شَوْكَةٍ، نَظَرْت؛ فَإِنْ كَانَ فِي مَقْتَلِ، كَالْعَيْنِ، وَالْفُؤَادِ، وَالْخَاصِرَةِ، وَالصُّدْغِ، وَأَصْلِ الْأُذُنِ، فَمَاتَ، فَهُوَ عَمْدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ بِذَلِكَ فِي الْمَقْتَلِ، كَالْجُرْحِ بِالسِّكِّينِ فِي غَيْرِ الْمَقْتَلِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَقْتَلٍ؛ نَظَرْت، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَالَغَ فِي إدْخَالِهَا فِي الْبَدَنِ، فَهُوَ كَالْجُرْحِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ هَذَا يَشْتَدُّ أَلَمُهُ، وَيُفْضِي إلَى الْقَتْلِ، كَالْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْغَوْرُ يَسِيرًا، أَوْ جَرَحَهُ بِالْكَبِيرِ جُرْحًا لَطِيفًا، كَشَرْطَةِ الْحَجَّامِ فَمَا دُونَهَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ ضَمَّنَّا حَتَّى مَاتَ، فَفِيهِ الْقَوَدُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْهُ، وَإِنْ مَاتَ فِي الْحَالِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا قِصَاصَ فِيهِ. قَالَ ابْنُ حَامِدٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَأَشْبَهَ الْعَصَا وَالسَّوْطَ، وَالتَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ أَجْوَدُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ حُصُولَ الْمَوْتِ بِغَيْرِهِ ظَاهِرًا، كَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ، وَلَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ كَوْنَهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْقَتْلُ غَالِبًا، لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ مَوْتِهِ فِي الْحَالِ، وَمَوْتِهِ مُتَرَاخِيًا عَنْهُ، كَسَائِرِ مَا لَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ وَالثَّانِي، فِيهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْمُحَدَّدَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي حُصُولِ الْقَتْلِ بِهِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَطَعَ شَحْمَةَ أُذُنِهِ، أَوْ قَطَعَ أُنْمُلَتَهُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ إدَارَةُ الْحُكْمِ، وَضَبْطُهُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَجَبَ رَبْطُهُ بِكَوْنِهِ مُحَدَّدًا، وَلَا يُعْتَبَرُ ظُهُورُ الْحِكْمَةِ فِي آحَادِ صُوَرِ الْمَظِنَّةِ، بَلْ يَكْفِي احْتِمَالُ الْحِكْمَةِ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِهِ فِيمَا إذَا بَقِيَ ضِمْنًا، مَعَ أَنَّ الْعَمْدَ لَا يَخْتَلِفُ مَعَ اتِّحَادِ الْآلَةِ وَالْفِعْلِ، بِسُرْعَةِ الْإِفْضَاءِ وَإِبْطَائِهِ، وَلِأَنَّ فِي الْبَدَنِ مَقَاتِلَ خَفِيَّةً، وَهَذَا لَهُ سِرَايَةٌ وَمَوْرٌ، فَأَشْبَهَ الْجُرْحَ الْكَبِيرَ.
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةُ، وَلِلشَّافِعِيِّ، مِنْ التَّفْصِيلِ نَحْوٌ مَا ذَكَرْنَا.
النَّوْعُ الثَّانِي، الْقَتْلُ بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ، مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ حُصُولُ الزَّهُوقِ بِهِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ
فَهَذَا عَمْدٌ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ أَيْضًا. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَحَمَّادٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا قَوَدَ فِي ذَلِكَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ: الْعَمْدُ مَا كَانَ بِالسِّلَاحِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَوَدَ فِي ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ بِالنَّارِ. وَعَنْهُ فِي مُثْقَلِ الْحَدِيدِ رِوَايَتَانِ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا إنَّ فِي قَتِيلِ عَمْدِ الْخَطَإِ، قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ، مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» . فَسَمَّاهُ عَمْدَ الْخَطَإِ، وَأَوْجَبَ فِيهِ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ؛ وَلِأَنَّ الْعَمْدَ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ بِنَفْسِهِ، فَيَجِبُ ضَبْطُهُ بِمَظِنَّتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، لِحُصُولِ الْعَمْدِ بِدُونِهِ فِي الْجُرْحِ الصَّغِيرِ، فَوَجَبَ ضَبْطُهُ بِالْجُرْحِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute