وَالثَّانِي، عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ حَصَلَ بِأَمْرِهِ وَتَسْلِيطِهِ، عَلَى وَجْهٍ لَا ذَنْبَ لِلْمُبَاشِرِ فِيهِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ، كَمَا لَوْ أَمَرَ عَبْدَهُ الْأَعْجَمِيَّ بِقَتْلِ مَعْصُومٍ. وَقَالَ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ: فِي صِحَّةِ الْعَفْوِ وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْوَكِيلِ، هَلْ يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْمُوَكِّلِ أَوْ لَا؟ وَلِلشَّافِعَيَّ قَوْلَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ يَجِبُ قَتْلُهُ بِأَمْرٍ يَسْتَحِقُّهُ.
وَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ الْعَفْوُ. فَلَا قِصَاصَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَتَلَ مَنْ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ قَتْلِهِ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَنْ يَعْتَقِدُهُ حَرْبِيًّا. وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ تَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ قَتَلَ مُرْتَدًّا قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ عِلْمِهِ بِإِسْلَامِهِ، وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِتَسْلِيطِهِ عَلَى الْقَتْلِ بِتَفْرِيطِهِ فِي تَرْكِ إعْلَامِهِ بِالْعَفْوِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ، كَالْغَارِ فِي النِّكَاحِ بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ، أَوْ تَزَوُّجِ مَعِيبَةٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إحْسَانٌ مِنْهُ، فَلَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ عَلَيْهِ. فَعَلَى هَذَا، تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَكِيلِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ؛ لِأَنَّ هَذَا جَرَى مَجْرَى الْخَطَأِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا يَعْتَقِدُهُ حَرْبِيًّا.
وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ فِي مَالِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ عَنْ عَمْدٍ مَحْضٍ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَمْدًا مَحْضًا لَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ، وَلِأَنَّهُ يَشْتَرِطُ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَالِ الْمَحَلِّ، وَكَوْنِهِ مَعْصُومًا، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا. وَإِنْ قَالَ: هُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ. فَعَمْدُ الْخَطَأِ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ وَدَلَّ عَلَيْهِ خَبَرُ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَتْ جَارِيَتهَا وَجَنِينَهَا بِمُسَطَّحِ، فَقَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي، إنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ عَفَا إلَى الدِّيَةِ، فَلَهُ الدِّيَةُ فِي تَرِكَةِ الْجَانِي، وَلِوَرَثَةِ الْجَانِي مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِدِيَتِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قُلْتُمْ فِيمَا إذَا كَانَ الْقِصَاصُ لِأَخَوَيْنِ فَقَتَلَهُ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلِأَخِيهِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ، فِي وَجْهٍ. قُلْنَا: ثُمَّ أَتْلَفَ حَقَّهُ، فَرَجَعَ بِبَدَلِهِ عَلَيْهِ، وَهَا هُنَا أَتْلَفَهُ بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ عَنْهُ، فَافْتَرَقَا. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْوَكِيلَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ. احْتَمَلَ أَنْ تَسْقُطَ الدِّيَتَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَأْخُذَهَا الْوَرَثَةُ مِنْ الْوَكِيلِ، ثُمَّ يَدْفَعُونَهَا إلَى الْمُوَكِّلِ، ثُمَّ يَرُدُّهَا الْمُوَكِّلُ إلَى الْوَكِيلِ، فَيَكُونُ تَكْلِيفًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ الْوَاجِبَةَ فِي ذِمَّةِ الْوَكِيلِ لِغَيْرِ مِنْ لِلْوَكِيلِ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَتَسَاقَطُ الدِّيَتَانِ إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَرِيمَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلُ مَا لَهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ الدِّيَتَانِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَقْتُولَيْنِ رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ وَرَثَةُ الْجَانِي دِيَتَهُ مِنْ الْوَكِيلِ، وَيَدْفَعُونَ إلَى الْمُوَكِّلِ دِيَةَ وَلِيِّهِ، ثُمَّ يَرُدُّ الْمُوَكِّلُ إلَى الْوَكِيلِ قَدْرَ مَا غَرِمَهُ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute