مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَلَا يَثْبُتُ بِالرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ، وَلَا نَصَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهَا إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، كَمَقَادِيرِ النَّفَقَاتِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يَفْرِضُ عَلَى الْمُوسِرِ نِصْفَ مِثْقَالٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ يَتَقَدَّرُ فِي الزَّكَاةِ، فَكَانَ مُعْتَبَرًا بِهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْمُتَوَسِّطِ رُبْعُ مِثْقَالٍ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ تَافِهٌ، لِكَوْنِ الْيَدِ لَا تُقْطَعُ فِيهِ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ، وَمَا دُونَ رُبْعِ دِينَارٍ لَا قَطْعَ فِيهِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْثَرُ مَا يُجْعَلُ عَلَى الْوَاحِدِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ يَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ لِلْقَرَابَةِ، فَلَمْ يَتَقَدَّرْ أَقَلُّهُ، كَالنَّفَقَةِ. قَالَ: وَيُسَوَّى بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ لِذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ بِتَوْقِيفٍ، وَلَا تَوْقِيفَ فِيهِ، وَأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِالْغِنَى وَالتَّوَسُّطِ، كَالزَّكَاةِ وَالنَّفَقَةِ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ كَذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّقْدِيرِ بِنِصْفِ دِينَارٍ وَرُبْعِهِ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَتَكَرَّرُ الْوَاجِبُ فِي الْأَعْوَامِ الثَّلَاثَةِ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ فِيهَا عَلَى الْغَنِيِّ دِينَارًا وَنِصْفًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْحَوْلِ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، فَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْحَوْلِ، كَالزَّكَاةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَكَرَّرُ؛ لِأَنَّ فِي إيجَابِ زِيَادَةٍ عَلَى النِّصْفِ، إيجَابًا لَزِيَادَةٍ عَلَى أَقَلِّ الزَّكَاةِ، فَيَكُونُ مُضِرًّا. وَيُعْتَبَرُ الْغِنَى وَالتَّوَسُّطُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّهُ حَالُ الْوُجُوبِ، فَاعْتُبِرَ الْحَالُ عِنْدَهُ، كَالزَّكَاةِ.
وَإِنْ اجْتَمَعَ مِنْ عَدَدِ الْعَاقِلَةِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ عَدَدٌ كَثِيرٌ، قُسِمَ الْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِهِمْ. فَيُلْزِمُ الْحَاكِمُ كُلَّ إنْسَانٍ عَلَى حَسْبِ مَا يَرَاهُ وَإِنْ قَلَّ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، يَجْعَلُ عَلَى الْمُتَوَسِّطِ نِصْفَ مَا عَلَى الْغَنِيِّ، وَيَعُمُّ بِذَلِكَ جَمِيعَهُمْ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: يَخُصُّ الْحَاكِمُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، فَيَفْرِضُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَدْرَ الْوَاجِبَ، لِئَلَّا يَنْقُصَ عَنْ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ، وَيَصِيرَ إلَى الشَّيْءِ التَّافِهِ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ، فَرُبَّمَا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ قِيرَاطٌ، فَيَشُقُّ جَمْعُهُ.
وَلَنَا، أَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ فَكَانُوا سَوَاءً، كَمَا لَوْ قَلُّوا، وَكَالْمِيرَاثِ. وَأَمَّا التَّعَلُّقُ بِمَشَقَّةِ الْجَمْعِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَشَقَّةَ زِيَادَةِ الْوَاجِبِ أَعْظَمُ مِنْ مَشَقَّةِ الْجَمْعِ، ثُمَّ هَذَا تَعَلُّقٌ بِالْحِكْمَةِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ يَشْهَدُ لَهَا، فَلَا يُتْرَكُ لَهَا الدَّلِيلُ، ثُمَّ هِيَ مُعَارَضَةٌ بِخِفَّةِ الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَسُهُولَةِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَخُصَّ الْحَاكِمُ بَعْضَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ أَوْ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ، فَإِنْ خَصَّهُ بِالِاجْتِهَادِ فَعَلَيْهِ فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَرُبَّمَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَعْرِفَةُ الْأَوْلَى مِنْهُمْ بِذَلِكَ، فَيَتَعَذَّرُ الْإِيجَابُ، وَإِنْ خَصَّهُ بِالتَّحَكُّمِ أَفْضَى إلَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُوجِبَ عَلَى إنْسَانٍ شَيْئًا بِشَهْوَتِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُوجِبَ عَلَيْهِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ، وَرُبَّمَا ارْتَشَى مِنْ بَعْضِهِمْ وَاتُّهِمَ، وَرُبَّمَا امْتَنَعَ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَدَائِهِ؛ لِكَوْنِهِ يَرَى مِثْلَهُ لَا يُؤَدِّي شَيْئًا مَعَ التَّسَاوِي مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute