للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى الْبِلَادِ وَأَهْلِهَا، حَتَّى بَايَعُوهُ طَوْعًا وَكُرْهًا، فَصَارَ إمَامًا يَحْرُمُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ لِمَا فِي الْخُرُوجِ عَلَيْهِ مِنْ شَقِّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَإِرَاقَةِ دِمَائِهِمْ، وَذَهَابِ أَمْوَالِهِمْ، وَيَدْخُلُ الْخَارِجُ عَلَيْهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، وَهُمْ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ، كَائِنًا مَنْ كَانَ» . فَمَنْ خَرَجَ عَلَى مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ بَاغِيًا، وَجَبَ قِتَالُهُ، وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ مَنْ يَسْأَلُهُمْ، وَيَكْشِفُ لَهُمْ الصَّوَابَ، إلَّا أَنْ يَخَافَ كَلَبَهُمْ؛ فَلَا يُمْكِنَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ.

فَأَمَّا إنْ أَمْكَنَ تَعْرِيفُهُمْ، عَرَّفَهُمْ ذَلِكَ، وَأَزَالَ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْمَظَالِمِ، وَأَزَالَ حُجَجَهُمْ، فَإِنْ لَجُّوا، قَاتَلَهُمْ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِالْأَمْرِ بِالْإِصْلَاحِ قَبْلَ الْقِتَالِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: ٩] . وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَاسَلَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ الْجَمَلِ، ثُمَّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يَبْدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ فَلَجَ فِيهِ فَلَجَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَكِبَّ قَتَلَةَ عُثْمَانَ لِوَجْهِهِمْ.

وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِي، أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا اعْتَزَلَتْهُ الْحَرُورِيَّةُ، بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، فَوَاضَعُوهُ كِتَابَ اللَّهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ. فَإِنْ أَبَوْا الرُّجُوعَ، وَعَظَهُمْ، وَخَوَّفَهُمْ الْقِتَالَ؛ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ، وَدَفْعُ شَرِّهِمْ، لَا قَتْلُهُمْ، فَإِذَا أَمْكَنَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، كَانَ أَوْلَى مِنْ الْقِتَالِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْفَرِيقَيْنِ. فَإِنْ سَأَلُوا الْإِنْظَارَ، نَظَرَ فِي حَالِهِمْ، وَبَحَثَ عَنْ أَمْرِهِمْ، فَإِنْ بَانَ لَهُ أَنَّ قَصْدَهُمْ الرُّجُوعُ إلَى الطَّاعَةِ، وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ، أَمْهَلَهُمْ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ الِاجْتِمَاعَ عَلَى قِتَالِهِ، وَانْتِظَارَ مَدَدٍ يَقْوَوْنَ بِهِ، أَوْ خَدِيعَةَ الْإِمَامِ، أَوْ لِيَأْخُذُوهُ عَلَى غِرَّةٍ، وَيَفْتَرِقَ عَسْكَرُهُ، لَمْ يُنْظِرْهُمْ، وَعَاجَلَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَصِيرَ هَذَا طَرِيقًا إلَى قَهْرِ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَلَا يَجُوزُ هَذَا، وَإِنْ أَعْطَوْهُ عَلَيْهِ مَالًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ عَلَى إقْرَارِهِمْ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ. وَإِنْ بُذِلَ لَهُ رَهَائِنُ عَلَى إنْظَارِهِمْ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا لِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الرَّهَائِنَ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِغَدْرِ أَهْلِهِمْ، فَلَا يُفِيدُ شَيْئًا. وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ أَسْرَى مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَأَعْطَوْا بِذَلِكَ رَهَائِنَ مِنْهُمْ، قَبِلَهُمْ الْإِمَامُ، وَاسْتَظْهَرَ لِلْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنْ أَطْلَقُوا أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ، أُطْلِقَتْ رَهَائِنُهُمْ، وَإِنْ قَتَلُوا مَنْ عِنْدَهُمْ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُ رَهَائِنِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ بِقَتْلِ غَيْرِهِمْ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْحَرْبُ، خَلَّى الرَّهَائِنَ، كَمَا تُخَلَّى الْأُسَارَى

<<  <  ج: ص:  >  >>