إحْدَاهُمَا: لَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْمُلْتَجِئِ إلَى الْحَرَمِ فِيهِ. وَالثَّانِيَةُ: يُسْتَوْفَى. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّهْيُ عَنْ الْقَتْلِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فَلَا يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ.» وَحُرْمَةُ النَّفْسِ أَعْظَمُ، فَلَا يُقَاسُ غَيْرُهَا عَلَيْهَا؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ بِالْجَلْدِ جَرَى مَجْرَى التَّأْدِيبِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، كَتَأْدِيبِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ. وَالْأَوْلَى ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَهِيَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَجَدْتهَا مُفْرَدَةً لِحَنْبَلٍ عَنْ عَمِّهِ، أَنَّ الْحُدُودَ كُلَّهَا تُقَامُ فِي الْحَرَمِ، إلَّا الْقَتْلَ. وَالْعَمَلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ جَانٍ دَخَلَ الْحَرَمَ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ حَدُّ جِنَايَتِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ. وَإِنْ هَتَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ بِالْجِنَايَةِ فِيهِ، هُتِكَتْ حُرْمَتُهُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِيهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِيهِ؛ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِجَلْدِ الزَّانِي، وَقَطْعِ السَّارِقِ، وَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْحَرَمُ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ وَلَا دَمٍ» «. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ ابْنِ حَنْظَلٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ أُبِيحَ دَمُهُ لِعِصْيَانِهِ، فَأَشْبَهَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ.
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: ٩٧] . يَعْنِي الْحَرَمَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: ٩٧] . وَالْخَبَرُ أُرِيدَ بِهِ الْأَمْرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِهِ الْخَبَرُ، لَأَفْضَى إلَى وُقُوعِ الْخَبَرِ خِلَافَ الْمُخْبَرِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ إلَى حُرْمَتِهَا، فَلَا يُسْفَكُ فِيهَا دَمٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
فَالْحُجَّةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute