فَإِنَّ حَدَّ الشُّرْبِ أَرْبَعُونَ وَحَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ، وَإِنْ سُلِّمَ اسْتِوَاؤُهُمَا، لَمْ يَلْزَمْ تَدَاخُلُهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ اقْتَضَى تَدَاخُلَهُمَا، لَوَجَبَ دُخُولُهُمَا فِي حَدِّ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مِمَّا يَتَدَاخَلُ يَدْخُلُ فِي الْأَكْثَرِ، وَفَارَقَ الْقَتْلَيْنِ وَالْقَطْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ يَفُوتُ بِالْأَوَّلِ، فَيَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الثَّانِي وَهَذَا بِخِلَافِهِ. فَعَلَى هَذَا، يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ مَعْنَيَانِ: خِفَّتُهُ، وَكَوْنُهُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ شَحِيحٍ إلَّا إذَا قُلْنَا: حَدُّ الشُّرْبِ أَرْبَعُونَ. فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِهِ؛ لِخِفَّتِهِ، ثُمَّ بِحَدِّ الْقَذْفِ، وَأَيُّهُمَا قُدِّمَ، فَالْآخَرُ يَلِيهِ، ثُمَّ بِحَدِّ الزِّنَا؛ فَإِنَّهُ لَا إتْلَافَ فِيهِ، ثُمَّ بِالْقَطْعِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُبْدَأُ بِالْقَطْعِ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ مُتَمَحِّضٌ، فَإِذَا بَرِئَ حُدَّ لِلْقَذْفِ، إذَا قُلْنَا: هُوَ حَقُّ آدَمِيٍّ ثُمَّ يُحَدُّ لِلشُّرْبِ فَإِذَا بَرِئَ، حُدَّ لِلزِّنَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ لِتَأَكُّدِهِ. النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ تَجْتَمِعَ حُدُودٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَحُدُودٌ لِآدَمِيٍّ، وَفِيهَا قَتْلٌ فَإِنَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى تَدْخُلُ فِي الْقَتْلِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالرَّجْمِ فِي الزِّنَا، وَالْقَتْلِ لِلْمُحَارَبَةِ، أَوْ الرِّدَّةِ أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، كَالْقِصَاصِ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّ، فَتُسْتَوْفَى كُلُّهَا. ثُمَّ إنْ كَانَ الْقَتْلُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، اُسْتُوْفِيَتْ الْحُقُوقُ كُلُّهَا مُتَوَالِيَةً؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَوَاتِ نَفْسِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّأْخِيرِ، وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ، اُنْتُظِرَ بِاسْتِيفَائِهِ الثَّانِي بُرْؤُهُ مِنْ الْأَوَّلِ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تُفَوِّتَ نَفْسَهُ قَبْلَ الْقِصَاصِ، فَيَفُوتَ حَقُّ الْآدَمِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَفْوَ جَائِزٌ، فَتَأْخِيرُهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْفُوَ الْوَلِيُّ فَيَحْيَا، بِخِلَافِ الْقَتْلِ حَقًّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَّفِقَ الْحَقَّانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَيَكُونَ تَفْوِيتًا، كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ قِصَاصًا وَحَدًّا؛ فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا هُوَ خَالِصٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَالرَّجْمِ فِي الزِّنَا، وَمَا هُوَ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، كَالْقِصَاصِ، قُدِّمَ الْقِصَاصُ، لِتَأَكُّدِ حَقِّ الْآدَمِيِّ.
وَإِنْ اجْتَمَعَ الْقَتْلُ لِلْقَتْلِ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالْقِصَاصُ، بُدِئَ بِأَسْبَقِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي الْمُحَارَبَةِ فِيهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ أَيْضًا، فَيُقَدَّمُ أَسْبَقُهُمَا، فَإِنْ سَبَقَ الْقَتْلُ فِي الْمُحَارَبَةِ، اُسْتُوْفِيَ، وَوَجَبَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ الْآخَرِ دِيَتُهُ فِي مَالِ الْجَانِي، وَإِنْ سَبَقَ الْقِصَاصُ، قُتِلَ قِصَاصًا، وَلَمْ يُصْلَبْ؛ لِأَنَّ الصَّلْبَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ بِالْقِصَاصِ، فَسَقَطَ الصَّلْبُ، كَمَا لَوْ مَاتَ وَيَجِبُ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ فِي الْمُحَارَبَةِ دِيَتُهُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ، وَهُوَ قِصَاصٌ، فَصَارَ الْوُجُوبُ إلَى الدِّيَةِ. وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ فِي الْمُحَارَبَةِ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْقَتْلِ مِنْ الْقَاتِلِ. وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ سَابِقًا، فَعَفَا وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، اُسْتُوْفِيَ لِلْمُحَارَبَةِ، سَوَاءٌ عَفَا مُطْلَقًا، أَوْ إلَى الدِّيَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا الْقَطْعُ: فَإِذَا اجْتَمَعَ وُجُوبُ الْقَطْعِ فِي يَدٍ أَوْ رِجْلٍ قِصَاصًا وَحَدًّا، قُدِّمَ الْقِصَاصُ عَلَى الْحَدِّ الْمُتَمَحِّضِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ سَبَبُهُ أَوْ تَأَخَّرَ. وَإِنْ عَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ، اُسْتُوْفِيَ الْحَدُّ، فَإِذَا قَطَعَ يَدًا وَأَخَذَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute