فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعَرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَا مِنْ الْغَنِيمَةِ. فَقَالَ: سَمِعْت بِلَالًا نَادَى ثَلَاثًا؟ . قَالَ: نَعَمْ قَالَ فَمَا مَنَعَك أَنْ تَجِيءَ بِهِ؟ . فَاعْتَذَرَ، فَقَالَ: كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْك» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد.
وَلِأَنَّ إحْرَاقَ الْمَتَاعِ إضَاعَةٌ لَهُ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ.» وَلَنَا؛ مَا رَوَى صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: دَخَلْت مَعَ مَسْلَمَةَ أَرْضَ الرُّومِ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ، فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ، فَقَالَ: سَمِعْت أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ، فَاحْرِقُوا مَتَاعَهُ، وَاضْرِبُوهُ» . قَالَ فَوَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ مُصْحَفًا، فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ، فَقَالَ: بِعْهُ، وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ. أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ.
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَحْرَقُوا مَتَاعَ الْغَالَّ» . فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَعْتَرِفْ أَنَّهُ أَخَذَ مَا أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ الْغُلُولِ، وَلَا أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا تَوَانَى فِي الْمَجِيءِ بِهِ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ تَائِبًا مُعْتَذِرًا، وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، وَتَمْحُو الْحَوْبَةَ.
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، فَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ إذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يُعَدُّ تَضْيِيعًا، كَإِلْقَاءِ الْمَتَاعِ فِي الْبَحْرِ إذَا خِيفَ الْغَرَقُ، وَقَطْعِ يَدِ الْعَبْدِ السَّارِقِ، مَعَ أَنَّ الْمَالَ لَا تَكَادُ الْمَصْلَحَةُ تَحْصُلُ بِهِ إلَّا بِذَهَابِهِ، فَأَكْلُهُ إتْلَافُهُ، وَإِنْفَاقُهُ إذْهَابُهُ، وَلَا يُعَدُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَضْيِيعًا وَلَا إفْسَادًا، وَلَا يُنْهَى عَنْهُ. وَأَمَّا الْمُصْحَفُ، فَلَا يُحَرَّقُ؛ لِحُرْمَتِهِ، وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ سَالِمٍ فِيهِ، وَالْحَيَوَانُ لَا يُحَرَّقُ؛ «لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّهَا» ، وَلِحُرْمَةِ الْحَيَوَانِ فِي نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْمَتَاعِ الْمَأْمُورِ بِإِحْرَاقِهِ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَلَا تُحَرَّقُ آلَةُ الدَّابَّةِ أَيْضًا.
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَيْهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا، وَلِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا يُحَرَّقُ، فَأَشْبَهَ جِلْدَ الْمُصْحَفِ وَكِيسَهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُحَرَّقُ سَرْجُهُ وَإِكَافُهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute