كَانَ لَا يَعْقِلُ، كَالطِّفْلِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، وَالْمَجْنُونِ، وَالسَّكْرَانِ، لَمْ يَحِلَّ مَا ذَبَحَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْقَصْدُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ضَرَبَ إنْسَانًا بِالسَّيْفِ فَقَطَعَ عُنُقَ شَاةٍ. وَأَمَّا الْآلَةُ، فَلَهَا شَرْطَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنْ تَكُونَ مُحَدَّدَةً، تَقْطَعُ أَوْ تَخْرِقُ بِحَدِّهَا، لَا بِثِقَلِهَا.
وَالثَّانِي، أَنْ لَا تَكُونَ سِنًّا وَلَا ظُفْرًا. فَإِذَا اجْتَمَعَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ فِي شَيْءٍ، حَلَّ الذَّبْحُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ حَدِيدًا، أَوْ حَجَرًا، أَوْ بَلْطَةً، أَوْ خَشَبًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوا، مَا لَمْ يَكُنْ سِنًّا أَوْ ظُفْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت إنْ أَحَدُنَا أَصَابَ صَيْدًا، وَلَيْسَ مَعَهُ سِكِّينٌ، أَيَذْبَحُ بِالْمَرْوَةِ وَشَقَّةِ الْعَصَا؟ فَقَالَ: اُمْرُرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ» . وَالْمَرْوَةُ: الصَّوَّانُ. وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، «أَنَّهُ كَانَ يَرْعَى لِقْحَةً، فَأَخَذَهَا الْمَوْتُ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يَنْحَرُهَا بِهِ، فَأَخَذَ وَتَدًا، فَوَجَأَهَا بِهِ فِي لَبَّتِهَا حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهَا، ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَالِكٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، إلَّا فِي السِّنِّ وَالظُّفْرِ، قَالَ: إذَا كَانَا مُتَّصِلَيْنِ، لَمْ يَجُزْ الذَّبْحُ بِهِمَا، وَإِنْ كَانَا مُنْفَصِلَيْنِ، جَازَ. وَلَنَا، عُمُومُ حَدِيثِ رَافِعٍ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ تَجُزْ الذَّكَاةُ بِهِ مُتَّصِلًا، لَمْ تَجُزْ مُنْفَصِلًا، كَغَيْرِ الْمُحَدَّدِ. وَأَمَّا الْعَظْمُ غَيْرُ السِّنِّ، فَمُقْتَضَى إطْلَاقِ قَوْلِ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، إبَاحَةُ الذَّبْحِ بِهِ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُذَكَّى بِعَظْمِ الْحِمَارِ، وَلَا يُذَكَّى بِعَظْمِ الْقِرْدِ؛ لِأَنَّك تُصَلِّي عَلَى الْحِمَارِ وَتَسْقِيه فِي جَفْنَتِك. وَعَنْ أَحْمَدَ: لَا يُذَكَّى بِعَظْمِ وَلَا ظُفْرٍ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: لَا يُذَكَّى بِالْعَظْمِ وَالْقَرْنِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوا، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ» . فَعَلَّلَهُ بِكَوْنِهِ عَظْمًا، فَكُلُّ عَظْمٍ فَقَدْ وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْعَظْمَ دَخَلَ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ الْمُبِيحِ، ثُمَّ اُسْتُثْنِيَ السِّنُّ وَالظُّفْرُ خَاصَّةً، فَيَبْقَى سَائِرُ الْعِظَامِ دَاخِلًا فِيمَا يُبَاحُ الذَّبْحُ بِهِ، وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْلِيلِ، وَلِهَذَا عَلَّلَ الظُّفْرَ بِكَوْنِهِ مِنْ مُدَى الْحَبَشَةِ، وَلَا يَحْرُمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute