أَمَّا الْعُيُوبُ الْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ، فَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّهَا تَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ؛ لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ؛ الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ.
وَمَعْنَى الْعَوْرَاءِ الْبَيِّنِ عَوَرُهَا، الَّتِي قَدْ انْخَسَفَتْ عَيْنُهَا، وَذَهَبَتْ؛ لِأَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ عَيْنُهَا، وَالْعَيْنُ عُضْوٌ مُسْتَطَابٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَى عَيْنِهَا بَيَاضٌ وَلَمْ تَذْهَبْ، جَازَتْ التَّضْحِيَةُ بِهَا؛ لِأَنَّ عَوَرَهَا لَيْسَ بِبَيِّنٍ، وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ لَحْمَهَا. وَالْعَجْفَاءُ الْمَهْزُولَةُ الَّتِي لَا تُنْقِي، هِيَ الَّتِي لَا مُخَّ لَهَا فِي عِظَامِهَا؛ لِهُزَالِهَا، وَالنِّقْيُ: الْمُخُّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا يَشْتَكِينَ عَمَلًا مَا أَنْقَيْنَ ... مَا دَامَ مُخٌّ فِي سُلَامَى أَوْ عَيْن
فَهَذِهِ لَا تُجْزِئُ؛ لِأَنَّهَا لَا لَحْمَ فِيهَا، إنَّمَا هِيَ عِظَامٌ مُجْتَمِعَةٌ.
وَأَمَّا الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا: فَهِيَ الَّتِي بِهَا عَرَجٌ فَاحِشٌ، وَذَلِكَ يَمْنَعُهَا مِنْ اللِّحَاقِ بِالْغَنَمِ فَتَسْبِقُهَا إلَى الْكَلَإِ فَيَرْعَيْنَهُ وَلَا تُدْرِكُهُنَّ، فَيَنْقُصُ لَحْمُهَا، فَإِنْ كَانَ عَرَجًا يَسِيرًا لَا يُفْضِي بِهَا إلَى ذَلِكَ، أَجْزَأَتْ. وَأَمَّا الْمَرِيضَةُ الَّتِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهَا: فَهِيَ الَّتِي بِهَا مَرَضٌ قَدْ يَئِسَ مِنْ زَوَالِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْقُصُ لَحْمَهَا وَقِيمَتَهَا نَقْصًا كَبِيرًا، وَاَلَّذِي فِي الْحَدِيثِ الْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَهِيَ الَّتِي يَبِينُ أَثَرُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْقُصُ لَحْمَهَا وَيُفْسِدُهُ، وَهُوَ أَصَحُّ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَرِيضَةِ الْجَرْبَاءُ؛ لِأَنَّ الْجَرَبَ يُفْسِدُ اللَّحْمَ وَيُهْزِلُ إذَا كَثُرَ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ، وَتَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِلَا دَلِيلٍ، وَالْمَعْنَى يَقْتَضِي الْعُمُومَ كَمَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، فَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ يُفْسِدُ اللَّحْمَ وَيَنْقُصُهُ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ مَعَ عُمُومِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى.
وَأَمَّا الْعَضَبُ: فَهُوَ ذَهَابُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْأُذُنِ أَوْ الْقَرْنِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ أَيْضًا. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: تُجْزِئُ مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعَمَّارٍ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ قَرْنُهَا يَدْمَى، لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا جَازَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ: إذَا ذَهَبَتْ الْأُذُنُ كُلُّهَا، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ ذَهَبَ يَسِيرٌ، جَازَ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ يُجْزِئُ؛ وَلِأَنَّ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ فَيْرُوزَ، قَالَ: قُلْت لِلْبَرَاءِ فَإِنِّي أَكْرَهُ النَّقْصَ مِنْ الْقَرْنِ وَمِنْ الذَّنَبِ. فَقَالَ: اكْرَهْ لِنَفْسِك مَا شِئْت،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute