خَرَجْنَا نُرِيدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ، فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا، وَحَلَفْت أَنَا أَنَّهُ أَخِي، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَدَقْت، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ. فَهَذَا وَمِثْلُهُ وَاجِبٌ لِأَنَّ إنْجَاءَ الْمَعْصُومِ وَاجِبٌ، وَقَدْ تَعَيَّنَ فِي الْيَمِينِ، فَيَجِبُ، وَكَذَلِكَ إنْجَاءُ نَفْسِهِ، مِثْلُ أَنْ تَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَرِيءٌ.
الثَّانِي، مَنْدُوبٌ، وَهُوَ الْحَلِفُ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ؛ مِنْ إصْلَاحٍ بَيْنَ مُتَخَاصِمَيْنِ، أَوْ إزَالَةِ حِقْدٍ مِنْ قَلْبِ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَالِفِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ دَفْعِ شَرٍّ، فَهَذَا مَنْدُوبٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَالْيَمِينُ مُفْضِيَةٌ إلَيْهِ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ طَاعَةٍ، أَوْ تَرْكِ مَعْصِيَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ الْمَعَاصِي.
وَالثَّانِي، لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ، وَلَا حَثَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدًا عَلَيْهِ، وَلَا نَدَبَهُ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ طَاعَةً لَمْ يُخِلُّوا بِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى النَّذْرِ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ النَّذْرِ، وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ، الْمُبَاحُ، مِثْلُ الْحَلِفِ عَلَى فِعْلِ مُبَاحٍ أَوْ تَرْكِهِ، وَالْحَلِفِ عَلَى الْخَبَرِ بِشَيْءِ، وَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ، أَوْ يَظُنُّ أَنَّهُ فِيهِ صَادِقٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: ٢٢٥] . وَمِنْ صُورِ اللَّغْوِ قَوْلُهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَيَبِينُ بِخِلَافِهِ.
فَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الْحُقُوقِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ تَرْكَهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ، فَيَكُونُ مَكْرُوهًا. ذَكَرَ ذَلِكَ أَصْحَابُنَا، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ وَالْمِقْدَادَ تَحَاكَمَا إلَى عُمَرَ، فِي مَالٍ اسْتَقْرَضَهُ الْمِقْدَادُ، فَجَعَلَ عُمَرُ الْيَمِينَ عَلَى الْمِقْدَادِ، فَرَدَّهَا عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ أَنْصَفَك. فَأَخَذَ عُثْمَانُ مَا أَعْطَاهُ الْمِقْدَادُ، وَلَمْ يَحْلِفْ، فَقَالَ: خِفْت أَنْ يُوَافِقَ قَدَرٌ بَلَاءً، فَيُقَالَ: بِيَمِينِ عُثْمَانَ.
وَالثَّانِي، أَنَّهُ مُبَاحٌ فِعْلُهُ كَتَرْكِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالْحَلِفِ عَلَى الْحَقِّ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَفِي يَدِهِ عَصًا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَمْنَعُكُمْ الْيَمِينُ مِنْ حُقُوقِكُمْ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّ فِي يَدِي لَعَصًا.
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، فِي كِتَابِ " قُضَاةِ الْبَصْرَةِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ عُمَرَ وَأُبَيًّا تَحَاكَمَا إلَى زَيْدٍ فِي نَخْلٍ ادَّعَاهُ أُبَيٌّ، فَتَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ زَيْدٌ: أَعْفِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عُمَرُ: وَلِمَ يُعْفِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ إنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute