عَلَى الْإِيجَابِ بِدُونِهِ، فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَهَبُ، وَلَا يُعِيرُ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَحْنَثُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ سُرَيْجٍ، لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالْعَارِيَّةَ لَا عِوَضَ فِيهِمَا، فَكَانَ مُسَمَّاهُمَا الْإِيجَابَ، وَالْقَبُولُ شَرْطٌ لِنَقْلِ الْمِلْكِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ السَّبَبِ، فَيَحْنَثُ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ فِيهِمَا، كَالْوَصِيَّةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبُولِ، فَلَمْ يَحْنَثْ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ، كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ. فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ وَالْهَدِيَّةُ وَالصَّدَقَةُ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَحْنَثُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ. وَلَا أَعْلَمُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فِيهَا، إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْهَدِيَّةِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَقَعُ عَلَيْهِمَا بِدُونِ الْقَبُولِ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: ١٨٠] إنَّمَا أَرَادَ الْإِيجَابَ دُونَ الْقَبُولِ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ صَحِيحَةٌ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَلَا قَبُولَ لَهَا حِينَئِذٍ.
(٨٠٠٦) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ، حَنِثَ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ، وَالْقَبُولُ الصَّحِيحُ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ الْمُسَمَّى الشَّرْعِيُّ، فَتَنَاوَلَهُ يَمِينُهُ. وَإِنْ حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ، بَرَّ بِذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ تَزَوَّجَ نَظِيرَتَهَا أَوْ دُونَهَا أَوْ أَعْلَى مِنْهَا، إلَّا أَنْ يَحْتَالَ عَلَى حَلِّ يَمِينِهِ بِتَزْوِيجٍ لَا يُحَصِّلُ مَقْصُودَهَا، مِثْلَ أَنْ يُوَاطِئَ امْرَأَتَهُ عَلَى نِكَاحٍ لَا يَغِيظُهَا بِهِ، لِيَبَرَّ فِي يَمِينِهِ، فَلَا يَبَرُّ بِهَذَا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ عَلَى امْرَأَتِهِ، لَا يَبَرُّ حَتَّى يَتَزَوَّجَ نَظِيرَتَهَا، وَيَدْخُلَ بِهَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ غَيْظَ زَوْجَتِهِ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ.
وَلَنَا، أَنَّهُ تَزَوَّجَ تَزْوِيجًا صَحِيحًا، فَبَرَّ بِهِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ نَظِيرَتَهَا، وَدَخَلَ بِهَا، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْغَيْظَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَزْوِيجِ نَظِيرَتِهَا، وَالدُّخُولِ بِهَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ فَإِنَّ الْغَيْظَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْخِطْبَةِ، وَإِنْ حَصَلَ بِمَا ذَكَرُوهُ زِيَادَةٌ فِي الْغَيْظِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْغَيْظِ الَّذِي يَحْصُلُ بِمَا تَنَاوَلَتْهُ يَمِينُهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ نِكَاحُ اثْنَتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ، وَلَا أَعْلَى مِنْ نَظِيرَتِهَا، وَاَلَّذِي تَنَاوَلَتْهُ يَمِينُهُ مُجَرَّدُ التَّزْوِيجِ، وَلِذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَى امْرَأَتِهِ، حَنِثَ بِهَذَا، فَكَذَلِكَ يَحْصُلُ الْبَرُّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى وَاحِدٌ، فَمَا تَنَاوَلَهُ النَّفْيُ تَنَاوَلَهُ فِي الْإِثْبَاتِ، وَإِنَّمَا لَا يَبَرُّ إذَا تَزَوَّجَ تَزْوِيجًا لَا يَحْصُلُ بِهِ الْغَيْظُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الصُّورَةِ وَنَظَائِرِهَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ، وَلِأَنَّ التَّزْوِيجَ هَاهُنَا يَحْصُلُ حِيلَةً عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ يَمِينِهِ بِمَا لَا يُحَصِّلُ مَقْصُودَهَا، فَلَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ حِيلَتُهُ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: إذَا حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَتَزَوَّجَ بِعَجُوزٍ أَوْ زِنْجِيَّةٍ، لَا يَبَرُّ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُغَيِّرَهَا وَيَغُمَّهَا، وَبِهَذَا لَا تَغَارُ وَلَا تَغْتَمُّ. فَعَلَّلَهُ أَحْمَدُ بِمَا لَا يَغِيظُ بِهِ الزَّوْجَةَ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ أَنْ تَكُونَ نَظِيرَتَهَا؛ لِأَنَّ الْغَيْظَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ قَدَّرَ أَنْ تَزَوُّجَ الْعَجُوزِ يَغِيظُهَا وَالزِّنْجِيَّةِ، لَبَرَّ بِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَغِيظُهَا، لِأَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ حِيلَةً لِئَلَّا يَغِيظَهَا، وَيَبَرَّ بِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute