للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَوَلَدِي. قَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» .

فَحَكَمَ لَهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا إقْرَارٍ، لِعِلْمِهِ بِصِدْقِهَا. وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فِي " كِتَابِهِ " أَنَّ عُرْوَةَ وَمُجَاهِدًا رَوَيَا، أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ اسْتَعْدَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، أَنَّهُ ظَلَمَهُ حَدًّا فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا. قَالَ عُمَرُ: إنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ، وَرُبَّمَا لَعِبْت أَنَا وَأَنْتَ فِيهِ، وَنَحْنُ غِلْمَانٌ، فَأْتِنِي بِأَبِي سُفْيَانَ. فَأَتَاهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، انْهَضْ بِنَا إلَى مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا. فَنَهَضُوا، وَنَظَرَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، خُذْ هَذَا الْحَجَرَ مِنْ هَاهُنَا فَضَعْهُ هَاهُنَا. فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ. فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ. فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ. فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ: خُذْهُ لَا أُمَّ لَك، فَضَعْهُ هَاهُنَا، فَإِنَّك مَا عَلِمْت قَدِيمَ الظُّلْمِ. فَأَخَذَ أَبُو سُفْيَانَ الْحَجَرَ، وَوَضَعَهُ حَيْثُ قَالَ عُمَرُ، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ حَيْثُ لَمْ تُمِتْنِي حَتَّى غَلَبْت أَبَا سُفْيَانَ عَلَى رَأْيِهِ، وَأَذْلَلْته لِي بِالْإِسْلَامِ. قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ أَبُو سُفْيَانَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ، إذْ لَمْ تُمِتْنِي حَتَّى جَعَلْت فِي قَلْبِي مِنْ الْإِسْلَامِ مَا أَذِلُّ بِهِ لِعُمَرَ.

قَالُوا: فَحَكَمَ بِعِلْمِهِ. وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِالشَّاهِدَيْنِ، لِأَنَّهُمَا يَغْلِبَانِ عَلَى الظَّنِّ، فَمَا تَحَقَّقَهُ وَقَطَعَ بِهِ، كَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي تَعْدِيلِ الشُّهُودِ وَجَرْحِهِمْ، فَكَذَلِكَ فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ، قِيَاسًا عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، لَا يَحْكُمُ فِيهِ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَمَا عَلِمَهُ قَبْلَ وِلَايَتِهِ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ، وَمَا عَلِمَهُ فِي وِلَايَتِهِ، حَكَمَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا عَلِمَهُ قَبْلَ وِلَايَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا سَمِعَهُ مِنْ الشُّهُودِ قَبْلَ وِلَايَتِهِ، وَمَا عَلِمَهُ فِي وِلَايَتِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَا سَمِعَهُ مِنْ الشُّهُودِ فِي وِلَايَتِهِ.

وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ» . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي بِمَا يَسْمَعُ، لَا بِمَا يَعْلَمُ «. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَضِيَّةِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ: شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَاكَ» . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَدَاعَى عِنْدَهُ رَجُلَانِ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: أَنْتَ شَاهِدِي. فَقَالَ: إنَّ شِئْتُمَا شَهِدْت وَلَمْ أَحْكُمُ، أَوْ أَحْكُمُ وَلَا أَشْهَدُ.

وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فِي " كِتَابِهِ "، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَعَثَ أَبَا جَهْمٍ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَاحَاهُ رَجُلٌ فِي فَرِيضَةٍ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا شِجَاجٌ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْطَاهُمْ الْأَرْشَ، ثُمَّ قَالَ: إنِّي خَاطِبٌ النَّاسَ، وَمُخْبِرُهُمْ أَنَّكُمْ قَدْ رَضِيتُمْ، أَرَضِيتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَصَعِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِنْبَرَ

<<  <  ج: ص:  >  >>