لَا يَسْتَقْرِئُ إلَّا ثِقَةً، فَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمَا قَالَ: اشْهَدَا عَلَيَّ أَنَّ هَذَا كِتَابِي إلَى فُلَانٍ.
وَإِنْ قَالَ: اشْهَدَا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ. كَانَ أَوْلَى، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا كِتَابِي إلَى فُلَانٍ. فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ يُحَمِّلُهُمَا الشَّهَادَةَ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ أَنْ يَقُولَ: اشْهَدَا عَلَيَّ. كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُجْزِئُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
ثُمَّ إنْ كَانَ مَا فِي الْكِتَابِ قَلِيلًا، اعْتَمَدَ عَلَى حِفْظِهِ، وَإِنْ كَثُرَ فَلَمْ يَقْدِرَا عَلَى حِفْظِهِ، كَتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونَهُ، وَقَابَلَ بِهَا لِتَكُونَ مَعَهُ، يَذْكُرُ بِهَا مَا يَشْهَدُ بِهِ، وَيَقْبِضَانِ الْكِتَابَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَا؛ لِئَلَّا يَدْفَعَ إلَيْهِمَا غَيْرَهُ، فَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ مَعَهُمَا إلَيْهِ، قَرَأَهُ الْحَاكِمُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَيْهِمَا، فَإِذَا سَمِعَاهُ قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي إلَيْك، أَشْهَدَنَا عَلَى نَفْسِهِ بِمَا فِيهِ. لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كِتَابُهُ غَيْرَ الَّذِي أَشْهَدَهُمَا عَلَيْهِ.
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَلَا يُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَقُولَا: نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ. لِأَنَّهَا أَدَاءُ شَهَادَةٍ، فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ لَفْظِ الشَّهَادَةِ. وَيَجِبُ أَنْ يَقُولَا: مِنْ عَمَلِهِ. لِأَنَّ الْكِتَابَ لَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا وَصَلَ مِنْ مَجْلِسِ عَمَلِهِ. وَسَوَاءٌ وَصَلَ الْكِتَابُ مَخْتُومًا أَوْ غَيْرَ مَخْتُومٍ، مَقْبُولًا أَوْ غَيْرَ مَقْبُولٍ؛ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى شَهَادَتِهِمَا، لَا عَلَى الْخَطِّ وَالْخَتْمِ. فَإِنْ امْتَحَا الْكِتَابُ، وَكَانَا يَحْفَظَانِ مَا فِيهِ، جَازَ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظَا مَا فِيهِ، لَمْ تُمْكِنْهُمَا الشَّهَادَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى خَتْمِ الْقَاضِي.
وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ كِتَابًا إلَى قَيْصَرَ، وَلَمْ يَخْتِمْهُ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ لَا يَقْرَأُ كِتَابًا غَيْرَ مَخْتُومٍ، فَاتَّخَذَ الْخَاتَمَ.» وَاقْتِصَارُهُ عَلَى الْكِتَابِ دُونَ الْخَتْمِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَتْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْقَبُولِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَقْرَءُوا كِتَابَهُ، وَلِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِمَا فِي الْكِتَابِ وَعَرَفَا مَا فِيهِ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ، كَمَا لَوْ وَصَلَ مَخْتُومًا وَشَهِدَا بِالْخَتْمِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ ضَبْطُهُمَا لِمَعْنَى الْكِتَابِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهُ يُسْأَلُ عَنْ قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى صَحِيفَةٍ، وَبَعْضُهُمْ يَنْظُرُ فِيهَا، وَبَعْضُهُمْ لَا يَنْظُرُ؟ قَالَ: إذَا حَفِظَ فَلْيَشْهَدْ. قِيلَ: كَيْفَ يَحْفَظُ، وَهُوَ كَلَامٌ كَثِيرٌ، قَالَ: يَحْفَظُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَالْوَضْعُ. قُلْت: يَحْفَظُ الْمَعْنَى؟ قَالَ: نَعَمْ.
قِيلَ لَهُ: وَالْحُدُودَ وَالثَّمَنَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَلَوْ أَدْرَجَ الْكِتَابَ وَخَتَمَهُ، وَقَالَ: هَذَا كِتَابِي، اشْهَدَا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ. أَوْ قَدْ: أَشْهَدْتُكُمَا عَلَى نَفْسِي بِمَا فِيهِ. لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّحَمُّلُ.
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute