وَلَنَا، فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّهُ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرَةَ، حِينَ شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: تُبْ، أَقْبَلْ شَهَادَتَك. وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مُنْكِرٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ؛ أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَنَكَلَ زِيَادٌ، فَجَلَدَ عُمَرُ الثَّلَاثَةَ، وَقَالَ لَهُمْ: تُوبُوا، تُقْبَلْ شَهَادَتُكُمْ. فَتَابَ رَجُلَانِ، وَقَبِلَ عُمَرُ شَهَادَتَهُمَا، وَأَبِي أَبُو بَكْرَةَ، فَلَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُ. وَكَانَ قَدْ عَادَ مِثْلَ النَّصْلِ مِنْ الْعِبَادَةِ. وَلِأَنَّهُ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، كَالتَّائِبِ مِنْ الزِّنَى، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الزِّنَى أَعْظَمُ مِنْ الْقَذْفِ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَسَائِرُ الذُّنُوبِ، إذَا تَابَ فَاعِلُهَا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، فَهَذَا أَوْلَى.
وَأَمَّا الْآيَةُ، فَهِيَ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُ اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: ٥] . وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: ٥] فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ، وَلَيْسُوا بِفَاسِقِينَ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا يَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيه؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَى الْجَلْدِ. قُلْنَا: بَلْ يَعُودُ إلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ، وَهِيَ لِلْجَمْعِ تَجْعَلُ الْجُمَلَ كُلَّهَا كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، فَيَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى جَمِيعِهَا، إلَّا مَا مَنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي بَيْتِهِ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» . عَادَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجُمْلَتَيْنِ جَمِيعًا، وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُغَايِرُ مَا قَبْلَهُ، فَعَادَ إلَى الْجُمَلِ الْمَعْطُوفِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ، كَالشَّرْطِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَعَبْدُهُ حُرٌّ، إنْ لَمْ يَقُمْ.
عَادَ الشَّرْطُ إلَيْهِمَا، كَذَا الِاسْتِثْنَاءُ، بَلْ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى رَدِّ الشَّهَادَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَة هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، فَيَكُونُ هُوَ الْحُكْمَ، وَالتَّفْسِيقُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ وَالتَّعْلِيلِ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ، فَعَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْحُكْمِ الْمَقْصُودِ، أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى التَّعْلِيلِ، وَحَدِيثُهُمْ ضَعِيفٌ، يَرْوِيه الْحُجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَرْفَعْهُ مَنْ رِوَايَتِهِ حُجَّةٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ، وَلَمْ تُذْكَرْ فِيهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute