وَمِمَّنْ قَالَ: لَا يُشْرَعُ التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فِي حَقِّ مُسْلِمٍ. أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: تُغَلَّظُ. ثُمَّ اخْتَلَفَا؛ فَقَالَ مَالِكٌ: يُحَلَّفُ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحَلَّفُ قَائِمًا، وَلَا يُحَلَّفُ قَائِمًا إلَّا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَسْتَحْلِفُونَ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، وَلَا يُحَلَّفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ إلَّا عَلَى مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ فَصَاعِدًا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْتَحْلَفُ الْمُسْلِمُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ بِمَكَّةَ، وَفِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فِي الْجَوَامِعِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَعِنْدَ الصَّخْرَةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَتُغَلَّظُ فِي الزَّمَانِ فِي الِاسْتِحْلَافِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَلَا تُغَلَّظُ فِي الْمَالِ إلَّا فِي نِصَابٍ فَصَاعِدًا، وَتُغَلَّظُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: تُغَلَّظُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: ١٠٦] . قِيلَ: أَرَادَ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . فَثَبَتَ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ تَأْكِيدُ الْيَمِينِ.
وَرَوَى مَالِكٌ، قَالَ: اخْتَصَمَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ مُطِيعٍ، فِي دَارٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا، إلَى مَرْوَانِ بْنِ الْحَكَمِ، فَقَالَ زَيْدٌ: أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي فَقَالَ مَرْوَانُ: لَا وَاَللَّهِ، إلَّا عِنْدَ مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ. قَالَ: فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ وَيَأْبَى أَنْ يَحْلِفَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: ١٠٧] .
وَلَمْ يَذْكُرْ مَكَانًا وَلَا زَمَنًا، وَلَا زِيَادَةً فِي اللَّفْظِ. وَاسْتَحْلَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُكَانَةَ فِي الطَّلَاقِ، فَقَالَ: «آللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً؟ . قَالَ: آللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً» . وَلَمْ يُغَلِّظْ يَمِينَهُ بِزَمَنٍ، وَلَا مَكَان، وَلَا زِيَادَةِ لَفْظٍ، وَسَائِرِ مَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَحَلَفَ عُمَرُ لِأَبِي حِينَ تَحَاكَمَا إلَى زَيْدٍ فِي مَكَانِهِ، وَكَانَا فِي بَيْتِ زَيْدٍ. وَقَالَ عُثْمَانُ لِابْنِ عُمَرَ: تَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ بِعْته وَمَا بِهِ دَاءٌ تَعْلَمُهُ؟ وَفِيمَا ذَكَرُوهُ تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقِ هَذِهِ النُّصُوصِ، وَمُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ.
فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَا عَنْ الْخَلِيفَتَيْنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، مَعَ مَنْ حَضَرِهِمَا، لَمْ يُنْكَرْ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ الشُّهْرَةِ، فَكَانَ إجْمَاعًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute